تصعيد الحرب الثورية وخَلْق المناضل لدى الكرد
14 فور 2014 جمع
النشاطاتُ المُسَيَّرةُ على ضوءِ الحريةِ والمساواةِ والديمقراطية، باتت المعيارَ القويمَ للحريةِ الاجتماعية
عبد الله أوجلان
كانت القضيةُ الأساسيةُ في مرحلةِ تشكيلِ مجموعةِ PKK تتمثلُ في الريادةِ الأيديولوجيةِ والسياسية. أما مضمونُها فكان يُشَكِّلُ صُلبَ النشاطاتِ الاصطلاحيةِ والكادرية. كانت المجموعةُ تنظرُ إلى حلِّ القضيةِ الكرديةِ على أنه مربَضُ الفَرَسِ لحلِّ جميعِ القضايا الاجتماعيةِ الأساسيةِ العالقة، ليس بالنسبةِ للكردِ وحسب، بل وفي عمومِ تركيا، وحتى في الشرقِ الأوسطِ قاطبة. لكنّ آفاقَها الأيديولوجيةَ والسياسيةَ كانت على مسافةٍ بعيدةٍ جداً عن تغطيةِ متطلباتِ ذلك. فهؤلاء الأناسُ الذين يُلاقون صعوباتٍ جمةً حتى في تأمينِ احتياجاتِ التغذيةِ الشخصية، والذين لا يتعدَّى تعدادُهم عددَ أصابعِ اليدَين، وأغلبُهم متذبذبٌ وغيرُ مستقرّ، بل وطالَتهم منذ دهورٍ يَدُ الزمنِ الغدّار (الذي يمكننا تسميتُه بالمدنية)؛ ما كان لطموحِهم في تحقيقِ الريادةِ الأيديولوجيةِ والسياسية، إلا أنْ يَكُونَ وهماً من الخيالِ في أيامِهم تلك. لا ريبَ في استحالةِ قطعِ الطريقِ من دونِ خيال. ولكن، لا ريب أيضاً في استحالةِ تحقيقِ حياةٍ حرةٍ وصائبةٍ بالخيالِ والأملِ فقط. لذا، فإنّ المقدرةَ على تكوينِ قدرِ كافٍ من المصطلحاتِ والكوادر، وبمعنى آخر: التمكُّنَ من التحولِ إلى مناضلين أيديولوجيين وسياسيين؛ اعتُبِرَ شكلَ النشاطِ الأساسيَّ طيلةَ السنواتِ العشرِ الأولى. وقد عمِلنا على عكسِ حكايةِ ذلك بخطوطِها العريضة.
كان للانطلاقِ صوب مكانِ الهجرةِ المقدسةِ في الشرقِ الأوسطِ معانيه المختلفة تماماً. فحكايةُ خروجِ ابنِ بلدِنا إبراهيم من أورفا، هي من أهمِّ قصصِ الكتبِ المقدسةِ للأديانِ التوحيديةِ الثلاثة. ولَكَم هو مثيرٌ حقاً أننا، وبعد فترةٍ تناهزُ الثلاثةَ آلاف وخمسمائة سنة، قَطَعنا طريقَنا متحصنين بنفسِ الحججِ والمبررات، ومررنا من نفسِ الدرب، وتوجَّهنا إلى نفسِ المكانِ برفقةِ قبيلةٍ عقائديةٍ بنفسِ التعدادِ على وجهِ التقريب. كما نَصَبنا خِيَمَنا المشابهةَ في نفسِ المكان. معروفةٌ هي حروبُ إبراهيم المندلعةُ هنا، والنتائجُ التي أفرَزَتها. في حقيقةِ الأمر، فالحدثُ المسمى بالحروبِ الدينية، ما هي إلا تعبيرٌ عن النضالِ الأيديولوجيِّ والسياسيِّ بعباراتٍ مغايرة، أي بالطرازِ الدينيّ. يجري الحديثُ في "العهدِ القديمِ" عن مصارَعةِ يعقوب بن إبراهيم مع الرب. واسمُ "إسرائيل" بذاتِه يعني الذي يُصارِعُ "أل"، أي مُصارِعُ "الله". لقد كانت اللغةُ المستخدَمةُ لغةَ عِراكٍ تُعَبِّرُ عن النضالِ الأيديولوجيّ. أما الخلافُ مع القبائلِ التي تقطنُ بلادَ كنعان، فيشيرُ إلى النضالِ السياسيّ.
وبعد حوالي ثلاثمائةِ عامٍ على خروجِ إبراهيم، قامَ هذه المرةَ موسى الذي يترأسُ القبيلةَ العِبرية، بتحقيقِ انطلاقتِه من مصرَ صوب نفسِ المكان، أي بلاد كنعان. ويُروى الحدثُ بنحوٍ أكثر شفافيةً مما في قصةِ خروجِ إبراهيم من أورفا. ومعنى الخروجِ المرموزِ إليه في موسى، مختلفٌ نوعاً ما عما عليه لدى إبراهيم. فموضوعُ الحديثِ هنا هو اكتسابُ القبيلةِ صفاتٍ قتاليةً أو طابعاً محارباً، عوضاً عن البحثِ الأيديولوجيِّ والسياسيّ. ذلك أنّ القبيلةَ العِبريةَ قد حظيَت بدينِها وإلهِها، أي بهويتِها الأيديولوجيةِ والسياسيةِ قبلَ ذلك بثلاثمائةِ سنة، لتُعَزِّزَها وتُنضِجَها على طولِ هذه السنين. بالتالي، فما بحثَ عنه موسى لَم يَكُ ديناً جديداً مع إلهِه، بل كان الإلهامَ والوحي، ألا وهو الأوامر أو الوصايا العشر. أما قصةُ كيفيةِ تَلَقّيه تلك الأوامر، فتُسرَدُ باللغةِ الأدبيةِ والدينيةِ السائدةِ في ذاك العصر. لكنّ "الأوامر" مصطلحٌ عسكريٌّ معنيٌّ بالقيادة. وهو يعني إعطاءَ الأوامرِ للقبيلة، وجرَّها إلى نظامِ الحرب. وحسبما يُذكَرُ في التوراة؛ فإنه بعدَ خروجِ موسى من مصر، يقضي عمرَه في جبلِ سيناء في معمعانِ حروبٍ دامت أربعين عاماً. وعندما وافَته المَنِيّةُ وهو يسعى إلى الغزوِ والفتحِ على تُخوبِ أريحا (مدينة في فلسطين)، انطوَت بذلك صفحةٌ من عهودِ التاريخ. إذن، فالحربُ هي لغةُ أو طرازُ ذلك العهدِ النضاليِّ الذي سادَ في أعوامِ 1300 ق.م على وجهِ التقريب. وحسبما نفهمُه من التوراة، فقصةُ الأربعين عاماً تلك، إنما هي ملآنةٌ بأَوجُهِ الشبَهِ مع ما يَسودُ في راهنِنا. وبينما تحققَ خلاصُ إبراهيم من نمرود المتسلط بعدَ كفاحٍ أيديولوجيٍّ وسياسيٍّ ضروسٍ كلَّفَه الهجرة، فإنّ خلاصَ موسى من فرعون المَلِك الإله أصبحَ ممكناً بأسلوبٍ نضاليٍّ قد بَدَّلَ شكلَه، أي عن طريقِ الخصائصِ القتاليةِ للقبيلةِ العبريةِ وكفاحِها المسلَّح. ومرةً أخرى تمّ خوضُ الحربِ في سبيلِ الأماكنِ المقدسة. أما اكتسابُ تلك المنطقةِ صفاتِ القدسية، فهو على علاقةٍ بموقعِها.
لعبَت القدسُ ومحيطُها دورَ منطقةٍ عازلةٍ بالنسبةِ لمختلفِ قوى الهيمنةِ منذ انطلاقةِ إبراهيم وحتى يومِنا الحاليّ، أي على مدى تاريخِ المدنيةِ تقريباً. وأولُ ما بدأَت بدورِها هذا، كان بين المدنيتَين السومريةِ والمصرية. فتلك المنطقةُ كانت خلال الفترةِ الممتدةِ من 3000 ق.م إلى 2000 ق.م بمثابةِ مساحةٍ نائيةٍ ومستقلةٍ ذاتياً وهامشية، بالنسبةِ إلى كِلتا المدنيتَين أو القوتَين الأساسيتَين المهيمنتَين. أما المجموعاتُ القَبَلِيّةُ الآهِلةُ في المنطقة، فتغتني عن طريقِ التجارةِ التي زاوَلَتها مع كِلتا المدنيتَين، ناثرةً بذلك بذورَ مدنيةٍ ثالثة. وكانت القبائلُ لا تزالُ محافظةً على خصائصِها هذه خلال فترةِ خروجِ سيدِنا إبراهيم (1700 1650 ق.م). كما إنّ عدداً جماً من المجموعاتِ القَبَلِيّةِ والعقائديةِ تُضفي على المنطقةِ طابعاً مختلفاً وشبهَ مستقلٍّ ومحفوفاً بهالةٍ من القدسية. ومنه، فكلُّ مجموعةٍ (شكلُ التجمعِ الأوليُّ آنذاك هو القبيلة) ترمي إلى التحررِ من جبروتِ فراعنةِ ونماردةِ عصرِها، ومن التعابيرِ الدينيةِ المُجسِّدةِ لذاك الجبروتِ الطاغي؛ ينبغي عليها تحصينُ قوتِها القَبَلِيةِ بالدفاعِ الذاتيِّ من جهة، وإنشاءُ الدينِ الذي تلتزمُ به هذه القبيلةُ الجديدةُ المُحَصَّنةُ بالدفاعِ الذاتيِّ من الجهةِ الثانية. وعليه، فالتوراةُ ما هو أساساً سوى قصةُ النضالِ الدينيِّ للقبائلِ القاطنةِ في تلك المنطقةِ والمُحَصَّنةِ بالدفاعِ الذاتيّ. وما أنجَزَه كلٌّ من إبراهيم وموسى، ربما هو عبارة عن إضافةِ نموذجَيهما الخاصَّين بهما إلى تلك القصصِ المشابهةِ المُعاشةِ في المنطقةِ قبل آلافِ السنين.
وما تطلعَ عيسى إلى تحقيقِه في مطلعِ السنةِ الميلاديّةِ بِمعِيّةِ قبيلتِه العقائديةِ الأصغرَ حجماً (مجموعة الحواريين الاثنَي عشر)، ليس سوى نسخةٌ مُعَدَّلةٌ من القصةِ نفسِها. والهدفُ مرةً أخرى هو القدسُ وفتحُ محيطِها المقدس. وأهمُّ فارقٍ يميزُه عن إبراهيم وموسى، هو أنّ سيدَنا عيسى لَم يَكُنْ زعيماً دينياً أو سياسياً أو عسكرياً للقبيلةِ العِبرية. بل يُنجزُ انطلاقتَه بوصفِه كاهناً شديدَ الفقرِ ويطمحُ في تحقيقِ الإصلاحِ في الدينِ اليهوديِّ ذي البنيةِ الهرميةِ السائدةِ في عصرِه. ويسعى إلى تقسيمِ الدينِ والقبيلةِ في آنٍ معاً (القبيلة اليهودية الآهِلة). موضوعُ الحديثِ هنا هو أكثرُ الثوراتِ الاجتماعيةِ التي عرفناها في التاريخِ جديةً وصرامة، وربما هي أولُها. وهي قرينةٌ لسبارتاكوس. فما رامَ سبارتاكوس إلى إنجاحِه عسكرياً في روما (في أعوامِ 70 ق.م)، جهِدَ عيسى المسيحُ إلى تحقيقِه في محيطِ القدسِ بمجموعتِه الأيديولوجيةِ الثورية، طامحاً في فتحِ القدس. وفي تلك الفترةِ كانت قوتان مهيمنتان تتصارعان على المنطقة. فأسيادُ روما وبرسابوليس يشنون الحربَ تلو الأخرى على تلك المنطقة، ويبذلون جهودَهم لتوطيدِ عملائِهم فيها. كما تميزَ الملوكُ الهيلينيون اللاحقون للإسكندر (في أواخرِ 300 ق.م) بموقعٍ مشابه، وبتصارُعِهم بناءً على ذلك. أما عيسى ومجموعتُه، فينكبّون على ضربٍ من ضروبِ النضالِ في سبيلِ الاستقلالِ والحريةِ في وجهِ الهيمنةِ والمتواطئين اليهود في آنٍ معاً. لكنّ هذا النضالَ يُخاضُ بكساءٍ أيديولوجيٍّ (بانطلاقةٍ دينيةٍ جديدة)، كضرورةٍ من ضروراتِ الظروفِ السائدةِ حينئذ. أما ما أسفرَ هذا الحدثُ عنه من نتائج، فهو أمرٌ معروف.
كما إنّ انطلاقةَ سيدِنا محمد أيضاً، والتي نَعلَمُ بها عن قُربٍ أكثر، قد استهدَفَت القدسَ في البداية. هذا ويُروى في القرآنِ أنّ المِعراجَ (العروج إلى السماء، اللقاء مع الرب، أي تحقُّقُ الدينِ الجديد) قد تحققَ في القدس. علماً أنّ الهجرةَ صوبَ المدينةِ المنورةِ أيضاً كانت لأجلِ القدس. وأولُ قِبلَةٍ للصلاةِ كانت القدس. كما إنّ قبيلةَ سيدِنا محمد مختلفة. ورغمَ تَحَلّيها بخصائص (الخصائص الساميّة) شبيهةٍ بالقبيلةِ العِبرية، إلا إنها تَعتَبِرُ العشائرَ العربيةَ النافذةَ في عهدِها (مطلع أعوامِ 600 م) في كلٍّ من المدينةِ المنورةِ ومكة، قوةً أساسيةً لها. وعلى الصعيدِ الدينيّ (الإطار الأيديولوجيّ لنضالِها)، فهي تُنجزُ النسخةَ الثالثةَ في التقاليدِ الإبراهيمية. ما هو قائمٌ هنا، هو إطارٌ أيديولوجيٌّ يهدفُ إلى المجتمعِ التجاريِّ بالأغلب. وبينما تتركُ الهرميةُ العليا للقبليلةِ بصماتِها على الدينِ في حقيقةِ إبراهيم وموسى، فإنّ فقراءَ ومقهوري القبيلةِ هم الأساسُ في دينِ سيدِنا عيسى. أما لدى محمد، فمصالحُ الشريحةِ التجارِ الوسطى في القبيلة، وبالتالي مجتمعُ الطبقةِ الوسطى هو الذي يدمغُ الدينَ الجديدَ بخِتمِه. والفارقُ الأوليُّ الذي يميزُ انطلاقةَ سيدِنا محمد عن سابقاتِها، هو التكاملُ الكلياتيُّ لنضالِها الأيديولوجيِّ والسياسيِّ والعسكريّ. بالتالي، فالتكاملُ الأيديولوجيُّ والسياسيُّ والعسكريُّ الموجودُ في الانطلاقةِ الإسلامية، ظاهرةٌ نادراً جداً ما نصادفُها في الأديانِ الأخرى. وإحرازُها الانتصاراتِ العظمى في غضونِ حزمةٍ زمنيةٍ جدِّ وجيزة، إنما هو مرتبطٌ بهذا الواقع. وهو فوزٌ يَندرُ ملاحظتُه حتى في الثوراتِ المعاصرة. وبينما كان يتكونُ في بدايةِ انطلاقتِه من حيثياتِ القبيلةِ وفوائضِها، ومن الأشخاصِ المتشردين الهائمين على رؤوسِهم، ومن امرأةٍ تاجرةٍ ورجلٍ عَبد؛ فإنّ نجاحَها خلال فترةٍ قصيرةٍ (حوالي أربعين سنة) في تقويضِ ودكِّ دعائمِ ثلاثِ إمبراطورياتٍ عالمية (البيزنطية، الساسانية، والحبشية) يأتي من قوتِها المتكامِلةِ أيديولوجياً وسياسياً وعسكرياً. وهي تُشَكِّلُ آخِرَ حلقةٍ عالميةٍ في سلسلةِ التقاليدِ الإبراهيمية.
أَنشأَت الكونيةُ الرأسماليةُ هيمنتَها حصيلةَ الحربِ الطاحنة، التي خاضتها ضد النُّسَخِ الثلاثِ من الكونيةِ الإبراهيمية (الموسوية، العيسوية، المحمدية). وما لا جدال فيه هو أنّه ما كان للرأسماليةِ كنظامٍ أنْ تكسبَ قيمةً كونية، لولا تلك القِيَمُ الكونيةُ الإبراهيميةُ الثلاث. ما يتسترُ خلف الرأسمالية، هو تفوقُ ثقافةِ المدنيةِ الماديةِ المتراكمةِ منذ أيامِ المدنيتَين السومريةِ والمصرية، إزاء ثقافةِ المدنيةِ المعنويةِ (الرَّهبانية، الدينية). ولِكِلتا الثقافتَين أواصرُهما مع المدينةِ والطبقةِ والدولة. ويَسودُ بينهما نزاعٌ متواصلٌ بشأنِ السلطةِ والاستغلال. هذا وتستمرُّ نفسُ التقاليدِ اليومَ أيضاً, ولكنْ بحالةٍ مستَحدَثة. وانطلاقاً من الصراعِ الإسرائيليِّ الفلسطينيِّ في المنطقة، بالإمكانِ الإدراكُ أنّ ذاك النزاعَ غالباً ما يُحدِّدُ مصيرَ التطوراتِ والمستجداتِ العالمية.
وهذا ما مآلُه أنّ لأرضيةِ انطلاقتِنا بعد 1980 واقعٌ تاريخيّ، قُمنا نحن بالسيرِ على إسقاطاتِه. وانطلاقاً من تحليلاتِنا (واقعنا الأيديولوجيّ) التي صغناها حتى الآن، ليس عسيراً استنباطُ كونِ مُكَوِّناتِ الحداثةِ الرأسماليةِ تزيدُ بأضعافٍ مضاعفةٍ عن فراعنةِ ونماردةِ العصورِ الأولى، سواءٌ من حيث التعسفيةِ والجور، أم من ناحيةِ العددِ والكَمّ. لا أودُّ حصولَ سوءِ فهم؛ ولكن، هناك أوجُهُ شَبَهٍ مثيرةٌ بين نضالِنا الأيديولوجيِّ المتمركزِ حول أنقرة خلال سنواتِه العشرِ الأولى، وبين النضالِ الأيديولوجيِّ الذي خاضَه كلٌّ من إبراهيم وموسى وعيسى في بداياتِ مراحلِهم. ونخصُّ بالذكرِ استحالةَ غضِّ النظرِ عن التشابهِ اللافتِ للأنظارِ مع النضالِ الأيديولوجيِّ الذي خاضَه سيدُنا محمدٌ في مكة خلال السنواتِ العشرِ الأولى. فالانطلاقاتُ التي حققوها تجاه فراعنةِ ونماردةِ وأباطرةِ عهودِهم، قد أنجزناها نحن ضد عناصرِ الحداثةِ الرأسمالية، والتي تُعَدُّ اشتقاقاتٍ متكاثرةً بنوعيةٍ أسوأ ألفَ مرةٍ من هؤلاء الفراعنةِ والنماردةِ والأباطرة. إنّ النضالاتِ الاجتماعيةَ تاريخيةٌ على الدوام. وما من نضالٍ اجتماعيٍّ يفتقرُ إلى الجذورِ التاريخيةِ السحيقة. علماً أنّنا نشرحُ في هذه المرافعةِ الأرضيةَ التاريخيةَ والاجتماعيةَ التي نرتكزُ إليها، والتي تُمثّلُ الحقيقةَ بعينِها. وباختصار، فقد تدفَّقنا كفرعٍ جانبيٍّ ضمن النهرِ الأمِّ للتدفقِ التاريخيِّ الاجتماعيّ.
يتعينُ توخي الحيطةِ والدقةِ البالغةِ تجاه التحليلاتِ التي تتناولُ المجتمعَ ضمن واقعِه الراهن. فسوسيولوجيا الحداثةِ الرأسماليةِ تخنقُ الواقعَ الاجتماعيَّ ضمن "اللحظة الحاضرة"، وتبترُ عُرى المجتمعِ مع التاريخِ والماضي بنحوٍ جائرٍ للغاية، وبرياءٍ فظيعٍ وتحريفٍ شنيعٍ وبألفِ قناعٍ في نفسِ الوقت؛ متحججةً في ذلك بالعلمية. أما الدينُ المُستَحدَث، فيَحذو حذوَ السوسيولوجيا ذاتِها. أي إنه شكلُها المُقَنَّعُ بالدين. بالتالي، فهو بجانبِه هذا أكثر تقزيماً ورياءً من السوسيولوجيا (بنمطِها الوضعيّ Pozitivist) في وجهِ الحقيقة (بما فيها التقاليدُ الدينية). أودُّ الوصولَ بذلك إلى التالي: إنّ حالةَ الحربِ المستمرةِ عشرين عاماً، والتي اندلعَت شرارتُها على حوافِّ جبلِ الشيخ بعد 1980؛ هي كفاحٌ جدُّ عظيمٍ في معناه، ويستندُ إلى أرضيةٍ تاريخيةٍ اجتماعية. وهي تحملُ بين طواياها آثاراً غائرةَ العُمقِ مأخوذةً من كفاحاتِ كلٍّ من سيدنا إبراهيم في منطقةِ الخليل، وموسى في سيناء، وعيسى في القدس، وسيدنا محمد في المدينةِ المنورة. إنها لا تكتفي بذلك، بل وتتأثرُ أيضاً بكلٍّ من برونو، أراسموس، بابوف، باكونين، ماركس، لينين، وماو. هذا ولا تغيبُ فيها آثارُ كلٍّ من زرادشت، بوذا، كونفوشيوس، وسقراط. ولا تُهمِلُ نيلَ نصيبِها من الآثارِ المنحدرةِ من الإلهاتِ ستار وإينانا وكيبالا، وصولاً إلى مريم وفاطمة وروزا. كما إنها تتشربُ مما تستطيعُ انتزاعَه من جميعِ وقائعِ الحقيقةِ الاجتماعية.
قد يَكُونُ مفيداً روايةُ الأقاصيصِ حول الانطلاقِ من أورفا سروج في مطلعِ شهرِ تموز من عامِ 1979. ونخصُّ بالذِّكرِ استذكارَ ما سبَقَ الانطلاقةَ من أيامٍ حافلةٍ بالمعاني أثناء الرحيلِ من ديار بكر بِمَعيّةِ فرهاد كورتاي في مطلعِ شهرِ نيسان، واستذكارَ الأيامِ التي قضَيناها في قريةِ خورس Xurs التابعةِ لمنطقةِ قزل تبه Kızıltepe. ولا شك في أنّ شهيدَنا العظيمَ فرهاد كورتاي بمثابةِ نصبٍ تذكاريٍّ لتلك الأيامِ الثمينةِ القَيِّمة. أما وصولُنا من قزل تبه إلى أورفا في أواخرِ الربيع، فيُعَبِّرُ عن لحظاتٍ فيها جانبٌ من المغامرةِ أيضاً. فكلُّ مكانٍ حَلَلنا فيه يتميزُ بمعاني تاريخية، ويتسمُ بخصائص جديرةٌ بالحديثِ عنها. وشهيدُنا القديرُ محمد قره سنغور، هو مَن كان برِفقتي هذه المرة. والأيامُ الأخيرةُ التي مَكَثنا خلالَها في أورفا، والتي تُقارِبُ الأربعين يوماً، تُطابِقُ تماماً الأيامَ الأخيرةَ لإبراهيم في أورفا. فقد سِرنا على خُطاه. وكنا نشعرُ حتى النخاعِ بلعنةِ نمرود. أما الحالةُ الروحيةُ التي لا تُنتَسى أبداً لأدهم أكجان، ثالثِ شهيدٍ عظيمٍ لنا في تلك المرحلة؛ فكانت حالةً عينيةً ومُجَسَّدةً للمقدساتِ الماضية. فالسنواتُ الأربعُ أو الخمسُ من ممارستِه العمليةِ التي أَعقَبَت الخروج، كانت رمزاً حقيقياً للالتزامِ والنشاطِ والفناءِ في العمل. لقد كان تحصيلُه الدراسيُّ متدنياً، ولكنه كان شخصاً مدرَّباً عَلَّمَ نفسَه بنفسِه. وآخِرُ نَفَسٍ له كان برهاناً قاطعاً أيضاً على حقيقتِه هذه.
عندما عقَدنا العلاقةَ مع التنظيماتِ الفلسطينية، كانت الحداثةُ الرأسماليةُ قد نخَرَت فيهم وأصابَتهم بالانحلالِ منذ زمنٍ بعيد. ولكنّ رياحَ المظهرِ الثوريِّ لَم تَكُنْ تنقصُهم في الوقتِ نفسِه. هذا ولا يُمكنُ إنكارُ نصيبِهم في تحقيقِ التحولِ العسكريِّ في PKK. إلا إنّ الباعثَ على الحزنِ والأسى، أنّ هذه العلاقةَ عجزَت عن كسرِ طوقِ الذهنيةِ الرأسماليةِ السائدةِ لديهم. فالمصالحُ اليوميةُ القصيرةُ المدى، قد فرضَت العقمَ على علاقةٍ جدليةٍ كان بمقدورِها أنْ تَكُونَ ذاتَ معاني عظيمةٍ جداً. والقوادُ الفلسطينيون كان يطمعون في استثمارِ قبيلتِنا الحربيةِ التي لَملَمنا شملَها بشقِّ الأنفس، واستغلالِها كجنودٍ مأجورين. لكننا لَم نسمحْ بذلك، ولَم نتنازلْ ولو قيدَ أنملةٍ عن روحِنا الثوريةِ وروحِ المقاومةِ والتصدي. ما قُلناه للفلسطينيين كان مُطابقاً تماماً لِما قُلناه قبلاً للثوارِ الأتراك: حيث كنا نقولُ ما أفادَ به كمال بير بعبارتِه "لن يَكُونَ خلاصُ وتحررُ الأتراكُ أو العربُ أو أيُّ شعبٍ شرقِ أوسطيٍّ موضوعَ حديث، من دونِ تحقُّقِ الثورةِ الكردستانية". بهذا المنوالِ كان بوسعِنا أداءُ دورِنا التاريخيِّ والأمميّ. ومع ذلك، فقد لَبَّينا مقتضياتِ المهامِّ الثوريةِ في تلك الساحةِ بنحوٍ يُشارُ له بالبَنان. ومثلما لَم نَقُمْ بحملةٍ خاصةٍ تستهدفُ إسرائيل، فإنّ التضحيةَ بعشرةِ شهداء بعدَ خوضِ مقاوماتٍ ملحمية، كانت من نصيبِنا جرّاء احتلالِ لبنان من قِبَلِ إسرائيل في 1982. وذكرى شهدائِنا هؤلاء كانت النبعَ العينَ الذي كنا نقتاتُ منه طيلةَ سنواتِنا العشرين التي أمضَيناها هناك. إذ إنّ نسيانَهم أمرٌ محال، وذكرياتُهم لا يُستَهانُ بها البتة. فشهداؤُنا الخالدون هؤلاء، هم قِيَمُنا الأمميةُ الحقة.
كان حضورُنا يتعاظمُ طردياً. وتَكَيَّفنا مع الكردِ في لبنان وسوريا على الفور. وقد كان هؤلاء الكردُ بالأغلبِ جزءاً من الجماهيرِ الكرديةِ الأساسيةِ التي عانت الانقسامَ حصيلةَ الحربِ العالميةِ الأولى. ثم حَلَّت عليهم لعنةُ الدولِ القوميةِ الغدارة، فأُرغِموا على عيشِ ضربٍ من ضروبِ الالتجاء. لقد كانوا أناساً تعرَّضوا إلى الصهرِ بدرجةٍ أقلّ، وكانوا مدركين لكردايتيتِهم. وكانوا يُشَكِّلون الكردَ الكرمانجَ النموذجيين. وكانوا مع تصاعدِ الرأسماليةِ يتحولون إلى عاطلين عن العمل. وكانت هذه المزايا تدفعُ بهم إلى صفوفِ قبيلتِنا الحربيةِ بسرعة. لقد كان من الهامِّ تَعَرُّفُنا على الحياةِ العسكريةِ وعلى أسلحةٍ أكثر تطوراً. ولأولِ مرةٍ كان التدريبُ العسكريُّ الجماعيُّ بشكلِه الراهنِ يتحققُ بين صفوفِ حركةِ الحريةِ الكردية. أما التواجدُ في أجواءٍ مُهَدَّدةٍ بالهجوم، فكان يُنَمّي خبرةَ الحربِ لدينا. ومع ذلك، كانت مشاكلُ الشخصيةِ تفرضُ نفسَها وتظهرُ باضطراد. في الحقيقة، ما مَرَرنا به كان متعلقاً بتحديثٍ وبكيانٍ اجتماعيٍّ يضربُ بجذورِه في أعماقٍ سحيقةٍ أكثر مما كنا نظنّ. ومثلما الحالُ في السنواتِ الأولى للإسلام؛ فما كان قائماً هنا هو تكوينُ نموذجٍ من المجتمعِ الحديثِ مؤلَّفٍ من أناسٍ ينحدرون من قبائل مختلفة، غيرِ متحدين، وغالبيتُهم من الحثالة.
بَيْدَ إننا، وكمثالٍ تاريخيٍّ هامّ، نَعلَمُ عن طريقِ التوراةِ مدى المشقاتِ التي لاقاها موسى في هذا الشأنِ من حيث ضبطِ وتطويعِ أنسابِ القبيلةِ العِبرية. فتكوينُ ثقافةٍ اجتماعيةٍ جديدةٍ تتخطى الثقافةَ القَبَلِيّةَ التقليدية، أَشبَهُ ما يَكُونُ بصنعِ قنبلةٍ ذَرّيّةٍ اجتماعية. فبعدَ صَلبِ عيسى، بات وجودُ الحواريين لا يختلفُ عن عَدَمِهم مدةً طويلةً من الزمن. فمجردُ المحافظةِ على صمودِ الأناسِ الذين عجزَت الثقافةُ الاجتماعيةُ القديمةُ عن حمايتِهم في وجهِ الإرهابِ الرهيبِ الذي تُسَلِّطُه شبكةُ غلاديو، كان يتطلبُ مهاراتٍ خاصةً وجهوداً حثيثة. بل حتى إنّ مجردَ تأمينِ عبورِهم الحدودَ الصارمةَ للدولِ القومية، وتأمينِ بطاقةِ الهويةِ الشخصية، والحصولِ على مأوى آمِنٍ وغذاءٍ يَسُدُّ الرمق؛ كان ينتصبُ أمامنا ككومةٍ ضخمةٍ من المشاكل. أما تشكيلُ تنظيمٍ مناضليٍّ وقتاليٍّ ضد إرهابِ الغلاديو الذي يُعتَبَرُ أرقى أنواعِ العنفِ الذي يَشهدُه عصرُنا، فكان يستلزمُ بَعثَ الأملِ في النفوسِ بقوةِ إقناعٍ خارقة، وترسيخَ الإيمانِ الذي لا يتزعزع، وتطويرَ الوعيِ الوطيدِ في سبيلِ ذلك. فاليسارُ التركيُّ الذي عجزَ عن التحلي بهذه المقدرةِ والكفاءةِ رغمَ مقاومتِه الشعبية، كان قد تناثرَ وتشتَّتَ سريعاً.
كان "طريقُ الثورةِ الكردستانيةِ" آخِرَ ما كتبتُه عندما كنتُ في الوطن. وما كان لهذا الكتابِ الذي يُعَدُّ بمثابةِ مانيفستو، أنْ يلعبَ دوراً أبعدَ من تحديدِ الوِجهةِ العامةِ لأجلِ الشبيبة، وتزويدِهم بالإرشاداتِ الأيديولوجيةِ اللازمة. كان إنجازاً هاماً، ولكنْ غيرَ كافٍ. إذ كانت مُعضِلةٌ مستعصيةٌ تنتصبُ أمامنا من قبيلِ الحياةِ العسكريةِ الطويلةِ الأمَد. وكانت التوجيهاتُ الجديدةُ ضروريةً من أجلِ ذلك. وكخطوةٍ أولى، قُمنا في سنةِ 1981 بإعدادِ كتابٍ من مَجموعِ الأحاديثِ المُسَجَّلةِ تحت عنوان "المسألة الشخصية في كردستان، الحياة الحزبية وخصائص المناضل الثوريّ". وبنفسِ المنوال، وبغرضِ لَمِّ شَملِ ما في حوزتِنا باسمِ التنظيم، فقد عَقَدنا في شهرِ تموز من عامِ 1981 الاجتماعَ الذي أَسمَيناه بالكونفرانسِ الأول، والذي كان اختباراً هاماً بالنسبةِ لي. و"التقرير السياسيّ" الذي قَدَّمتُه إلى هذا الاجتماعِ موجودٌ كتابياً. وهو وثيقةٌ حسنةٌ لفهمِ تلك المرحلةِ ومشاكلِها. كما كان ذلك الكونفرانسُ أحدَ الخطواتِ الجادةِ على دربِ جمعِ صفوفِ التنظيم. وذِكراهُ تُشَكِّلُ فترةً عزيزةً عليَّ في حياتي.
لكنّ المشاكلَ كانت كثيفةً لدرجةٍ تتطلبُ معها إنتاجَ الأيديولوجيا والتنظيمِ والممارسةِ العمليةِ كما المُوَلِّدُ الكهربائيّ (الدينامو). كانت قد أُخرِجَت المجموعاتُ الأولى من هناك لتبدأَ مسيرتَها، وتباشرَ بالتموقعِ في كلٍّ من لولان وحفتانين. كان لا مهرب من البدءِ بحربِ الأنصار. فصرخاتُ الإغاثةِ الآتيةُ من بين أقبيةِ سجنِ ديار بكر، كانت تُحَتِّمُ علينا الحِراكَ لحظةً قبل أخرى. وفي هذه الأثناء بالتحديد، دوَّنتُ مأثوراً شاملاً ومثالياً بعنوانِ "دور العنف في كردستان". وكان دوران كالكان هو مَن ساعدني هذه المرة. وكان بمقدورِ هذه التقييماتِ أنْ تؤديَ دوراً مُقنِعاً لأجلِ فهمِ خصائصِ المرحلةِ وتدريبِ المجموعات. إذ كنا نودُّ بكلِّ تأكيدٍ صياغةَ جوابٍ رداً على عمليةِ "الإضرابِ عن الطعامِ حتى الموت" العظيمة، والتي انتهَت باستشهادِ كلٍّ من كمال بير، محمد خيري دورموش، عاكف يلماز، وعلي جيجك. لكنّ إعطاءَنا الجوابَ تأخرَ بسببِ المواقفِ التي سلكَتها المجموعاتُ التي داخل الوطنِ منذ البداية، أو بالأحرى، بسببِ قيامِ المجموعةِ المسؤولةِ بتكرارِ ما هو موجود، وعجزِها عن انتهازِ الفرصةِ التاريخيةِ بنحوٍ صحيح، وقيامِها بحركاتِ استكشافٍ لا طائل منها ولا جدوى. ولو أنّ الجوابَ أُعطِيَ في زمانِه، لَربما كان بإمكاننا وقفُ حملاتِ الإعدامِ باكراً، وسدُّ الطريقِ أمام انتهاءِ عمليةِ الإضرابِ عن الطعامِ بالموت. ولهذا السببِ بالتحديد، أَستذكرُ عامَ 1983 على أنه عامُ الخُسران.
حسب رأيي، كان من الواجبِ دون أدنى شكٍّ البدءُ بحملةِ 15 آب اعتباراً من ربيعِ عامِ 1983 وبنحوٍ أوسع نطاقاً، وليس في 1984 كما حصل. استعداداتُنا كانت تساعِدُ على ذلك. لذا، فإحدى أولى الضرباتِ الجادةِ التي لَحِقَت بمخططِنا الأنصاريّ، كان ذلك التأخير، وحركاتِ الكشفِ غيرَ المناسبةِ والمفتقرةَ إلى الضوابطِ وروحِ المسؤولية. وعليه، فشروعُ المسؤولين عن هذا الوضعِ في تنويرِ هذه المرحلة، هو من دواعي مسؤوليتِهم الثورية. في واقعِ الأمر، كنا قد حاوَلنا تطويرَ تدخلٍ منظَّمٍ أكثر منذ صيفِ سنةِ 1980 عن طريقِ المجموعةِ التي يترأسُها كمال بير. وقد كانت تلك مبادرةً تستهدفُ الوصولَ حتى أعماقِ ديرسم مباشرةً، دون الشعورِ بالحاجةِ إلى التموقعِ في جنوبِ كردستان. ولو لَم يُعتَقَلْ كمال بير بمحضِ صدفةٍ وبشكلٍ ما كان له أنْ يَكُون (اعتقالُه كان حدثاً سيئَ الطالعِ بالنسبةِ إلى الحركة)، لَاتَّخَذَت حقيقةُ القيادةِ التكتيكيةِ في PKK مساراً مغايراً. هذا ولَم يستطعْ أيُّ رفيقٍ آخر ملءَ الفراغِ الذي خلَّفَه وراءه. كما إنّ اعتقالَ كلٍّ من مظلوم دوغان ومحمد خيري دورموش على التوالي في تلك السنوات، يَعَدُّ خسارةً جسيمةً تحققَت بالرغمِ من أنه ما كان لها داعٍ، بل وكان بالمقدورِ منعُ حصولِها. وهكذا انقسمَ فؤادُنا إلى عدةِ أقسام. فمن جهةٍ كان ينبغي خلقُ تنظيمٍ من المناضلين والمقاتلين الثوار في معمعانِ فوضى الشرقِ الأوسط، وعقدُ الأملِ على المرشَّحين ليَكُونوا أنصاراً، والذين يجري نقلُهم إلى داخلِ الوطن؛ ومن الجهةِ الأخرى كان يتعينُ تحمُّلُ صيحاتِ الإغاثةِ المدويةَ في ردهاتِ السجون، والانفتاحُ على ساحةِ أوروبا. وكلُّ ذلك كان يستلزمُ جهوداً مضنيةً دون هوادة. لكنّ قلةً قليلةً هم الذين ساعدونا، إذا لَم نَحسبْ أدهم أكجان. فكلُّ واحدٍ كان يفرضُ نفسَه بهذا الشكلِ أو ذاك.
كان أسيادُ Dev-Yol الذين في أوروبا قد انهمكوا في الهجومِ على PKK أيضاً، بغيةَ كسرِ شوكةِ المقاومةِ فيه؛ وكأنه لَم تَكفِهم مساعيهم الدؤوبةُ التي صرفوها للتوجهِ صوب أوروبا وتصفيةِ تنظيمِهم. وحسبما يَلُوحُ لنا أو على الأقلِّ من المحتَمَلِ أنّهم أُنيطوا بمَهَمّةٍ كهذه. أما KDP فدعكَ من أنْ يُساعدَنا، بل كان معانداً في التشبثِ بدورِه في زرعِ العراقيلِ على دربِ ثورةِ شمالي كردستان. وبدأَ يزدادُ وضوحاً أنّ ما نَصَّت عليه اتفاقيةُ الموصل المُبرَمةُ في 1926، كان الاستمرارَ بسياسةِ دعمِ ومؤازرةِ KDP وعائلةِ البارزاني، مقابلَ تخليهم عن شمالي كردستان. أما الدورُ الأصلُ الذي أُنيطَ به KDP، فكان تقديمَ السَّنَدِ لممارساتِ تهدئةِ الأجواءِ وامتصاصِ ردودِ الفعلِ المُطَبَّقةِ على كردستانِ إيران وكردستانِ تركيا. وعلى خلفيةِ ذلك كان حِراكُه في الحُكمِ الذاتيِّ سيلقى الدعمَ ضمن كردستان العراق. وهكذا كنا بِتنا وجهاً لوجهٍ أمام حقائقِ هذه السياسةِ القاسية. كانت الحربُ العراقيةُ الإيرانيةُ قد أفرَزَت وضعاً جديداً، لكنّ القيادةَ الداخليةَ كانت عاجزةً تماماً عن الاستفادةِ منه. أَضِفْ إلى ذلك أننا قدَّمنا محمد قره سنغور، القائدَ القديرَ لمقاومةِ حلوان سيفرك (1978 1980) شهيداً في سياقِ مبادرةٍ لا طائل منها، بتكليفِه بمَهَمّةِ القيامِ بوساطةٍ عقيمةٍ بغيةَ وقفِ الاشتباكاتِ بين KDP وYNK. هكذا، ولسوءِ الحظِّ تماماً، فقد خَسِرناه في الثاني من أيار 1983 مع إبراهيم بلكين في غيرِ زمانِه، وبنحوٍ لا داعي له البتة. ولَربما كان محمد قره سنغور واحداً من الرفاقِ القادرين على تغييرِ مصيرِ الأنصارِ إلى جانبِ كمال بير. وكلما أتَتنا أنباءُ استشهادِ رفاقِنا في السجون، وعلى رأسِهم مظلوم دوغان، كمال بير، محمد خيري دورموش، عاكف يلماز، وفرهاد كورتاي؛ لَم نَكُنْ نَجِدُّ بُدّاً من التركيزِ والضغطِ أكثر فأكثر على أفئدتِنا وعقولِنا. لقد كانت أياماً تقتضي تَحَمُّلَ الآلامِ الأليمة.
عندما تَلَقَّينا نبأَ إنجازِ حملةِ 15 آب 1984، التي تحققت متأخرةً عن موعدِها، باتَت تمضيةُ الأيامِ بل الساعاتِ مشكلةً بِحَدِّ ذاتِها. كانت نتائجُها هامة. حيث كان قد خُطِّطَ بمنوالٍ مدروسٍ ومنسَّقٍ لحملةٍ عسكريةٍ ستُطَبَّقُ لأولِ مرة، ففُتِحَ البابُ بالتالي أمام مستجداتٍ ستُغَيِّرُ الوضعَ القائمَ من الجذور. والأهمُّ من ذلك كان تصعيدَ الحملةِ أكثر فأكثر، وتتويجَها بنهايةٍ ظافرة. وقد وضَعنا كلَّ ثِقَلِنا على هذه المَهَمّة. فجَهَّزنا المجموعاتِ من أجلِ كلِّ منطقة، وشَكَّلنا القوى الاحتياطية. كان بالإمكانِ جعلُ عامِ 1985 عامَ حملةٍ أكبر حجماً. وقد كان ستُولى ولايتا ديرسم وتولهلدان ثِقَلاً واعتناءً خاصاً يماثلُ ما عليه ولايةُ بوطان. وقد أُمِرَت قوانا التي في آمد وغرزان وسرحد للبدءِ بالحِراك. لكن، وبسببِ اعتقالِ الرفيقِ صبري أوك في أواسطِ الشتاءِ بسوءِ طالع، واستشهادِ مجموعةِ المُرشدين الطلائع المؤتمِرةِ بإمرةِ الرفيقَين حجي (صبري غوزو بيوك) وخضر في منطقةِ بوزوفا؛ لَم نتمكنْ من إنجازِ الحملةِ العسكريةِ المرسومةِ لأجلِ منطقةِ أديامان. وتَكَبَّدنا خسائرَ أسفرَت عن مخاضاتٍ غائرة. كما إنّ استشهادَ الرفيقِ سليم ومجموعتِه التي انطلقَت من منطقةِ عرابان، قد حصلَ في الدربِ نفسِها. ومع ذلك، فقد بقَينا في المنطقةِ حتى النهاية. وبالرغمِ من عدمِ إثباتِ وحداتِ الأنصارِ حضورَها على مستوى متقدمٍ في كلٍّ من ديرسم وآمد وغرزان، إلا إنها حافظَت على وجودِها دائماً هناك. أما المجموعاتُ التي في ولايةِ سرحد، فكانت قد باشرَت بالتحركِ في جبالِ آغري. وكان ابنُ بلدي الشابُّ الذي كنتُ أعرفُه محمد أرتورك قد بلغَ مرتبةَ الشهادةِ هناك. كما وكانت وصلَتنا أنباءُ استشهادِ العديدِ من البواسلِ الأعزاءِ جداً على قلوبِنا من أبناءِ منطقةِ آغري. لقد عجزْنا عن إنجازِ القفزةِ المُرتَقَبةِ في 1985، ولكنّ التصفيةَ المعقودةَ علينا أيضاً لَم تتحقق. فقد كان عاماً شَهِدَ أعتى هجماتِ الجيشِ التركيِّ بالمعنى الكلاسيكيِّ للكلمة، وبدعمٍ من الناتو. وكان بالنسبةِ إلى الطرفَين بمثابةِ انطواءِ صفحةٍ من السياق. فرغمَ كونِ عدمِ تحقيقِ الحملةِ الأنصاريةِ بالمستوى المطلوبِ يُعَدُّ نصراً بالنسبةِ إلى الجيشِ التركيّ، إلا إنّ فشلَه الهامَّ تجسَّدَ آنذاك في اكتسابِ الوجودِ الأنصاريِّ طابعاً من الديمومةِ والرسوخ. أما على صعيدِ PKK فتمَثَّلَت خسارتُه الفادحةُ في عجزِه عن انتهازِ الفرصةِ السانحةِ لتصعيدِ حربٍ أنصاريةٍ تحظى بدعمٍ شعبيٍّ قويٍّ يَكادُ يشملُ كلَّ المناطقِ الاستراتيجية، والارتقاءِ بها على خلفيةِ الاستعداداتِ الكبرى الجارية. ومع ذلك، فعدمُ التمكنِ من دحرِه من أيِّ موقعٍ له، وحفاظُه على وجودِه فيها جميعاً؛ كان نجاحاً مؤزراً ينبغي عدم الاستهانةِ به إطلاقاً.
مرَّت سنةُ 1986 بحالةٍ من عودةِ الاستعدادِ والتأهُّبِ بالنسبةِ إلى كِلا الطرفَين. وأَفجَعُ نبأٍ تلقيتُه أنا وحركتي في تلك السنة، كان استشهادَ الرفيقِ معصوم قورقماز. لقد كان خبراً يحملُ بين ثناياه كلَّ المخاطرِ التي كانت تنتظرُنا. وكأنه يُعادُ تشَكُّلُ طوقٍ من الحصارِ حولي ثانيةً. كنتُ مغتاظاً جداً، وعاجزاً عن تَقَبُّلِ ما يحصل. فقد كنا تَكَبَّدنا خسائر بشكلٍ جدِّ رخيص. ولأنّ تلك الآلامَ كانت تنخرُ فيّ، فلَم أُشاركْ تماماً في المؤتمرِ المنعقدِ عامَ 1986. لقد كان مؤتمرَنا الثالث، حيث كنا عقَدنا مؤتمرَنا الثاني عامَ 1982 في معسكرِ "الجبهةِ الشعبيةِ لتحريرِ فلسطين" جنوبَ سوريا، والذي كان بمثابةِ تكرارٍ للكونفرانسِ الأول. ولكنه كان مؤتمرَ البدءِ بالعودةِ الكثيفةِ إلى الوطن. لقد سمعتُ أثناء انعقادِ ذلك المؤتمرِ أنّ ابنَ بلدي عدنان زنجيركران، الذي كان انضمَّ إلى صفوفِ الحركةِ من ساحةِ أوروبا، اعتُقِلَ على ضفافِ نهرِ الفراتِ، وأنه راحَ يُمسكُ برِقابِ ضابطٍ برتبةِ نقيب، وهوى بنفسِه وبه من قمةِ صخرةٍ شاهقة، بالغاً منزلةَ الشهادة. ولا تفتأُ هذه الحادثةُ عالقةً في ذهني كغصةٍ تعتصرُ فؤادي. لقد كانت هكذا أنباءٌ كثيرةً جداً، وتجسَّدَ ردي عليها جميعاً في المزيدِ من الضغطِ على نفسي.
أصبحَ المؤتمرُ الثالثُ مؤتمرَ محاكمةٍ بكلِّ ما للكلمةِ من معانٍ. فالكلُّ كانوا يحاكمون بعضَهم بعضاً. كانت كسيرة وصلاح الدين جليك قد وصلا نهايةَ دربِهما. حيث كان المؤتمرُ قد نصَّ على مقرراتٍ مصيريةٍ ومميتةٍ بالنسبةِ لكِلَيهما. لقد بلغَ الأمرُ حداً، بات فيه سائقي فرحان يتحدثُ عن ضرورةِ تمزيقِ كسيرةِ إرباً إرباً بعدَ ربطِها بأربعةِ أحصنةٍ تشدُّها. ومرةً ثانيةً كان قد وقعَ على كاهلي إنقاذُ كِلَيهما من الموتِ المحتوم. كانت هناك أقاويلٌ مفادُها أنّ صلاح الدين قامَ عن طريقِ جبالِ جودي بلقاءاتٍ تقضي بالاستسلامِ إلى الجمهوريةِ التركية. ولكن، ما الذي كان مستوراً وراء المواقفِ الباردةِ والمروِّعةِ والعصيةِ على الحلِّ والتحليل، والتي كانت تتَّبِعُها كسيرة تجاهي؟ وما الذي شَخَّصَه فرحان حتى توصَّلَ إلى نتيجةٍ كهذه؟ كما إنّ محمد سعيد أيضاً (أدهم أكجان) كان قد قالَ قبل وفاتِه "لَكَم هي كثيرةٌ المكائدُ الفظيعةُ المُحاكَةُ خِفيةً عن القائد"، فقضى نحبَه قهراً وغيظاً. لَطالما اختَلَجتني ظنونٌ بعد عامِ 1980، تشيرُ إلى نَسجِ إحدى المؤامراتِ المحاكةِ ضدي داخل صفوفِ Dev-Yol. وإنْ افتَرَضنا صحةَ احتمالِ حبكِها فعلاً، فإني على قناعةٍ حينها بأنّ كلاً من شبكةِ الغلاديو التركيِّ وقوى الأمنِ الداخليِّ قد شرعَت في تجربةِ هكذا مؤامرةٍ عبر هذا الطريق. فقيامُ البعضِ من داخلِ Dev-Yol في أوروبا بفرضِ التصفويةِ علناً، واعتمادُهم على دعمِ الدولةِ الألمانيةِ في ذلك، وجعلُهم PKK أولَ هدفٍ يتطلعون إلى تسويةِ أمرِه، وتَبَنِّيهم ودعمُهم للاستفزازيِّ المتآمرِ سمير (جتين غونغور) في الحادثةِ الاستفزازيةِ المُعاشةِ في 1983؛ كلُّ ذلك يبسطُ للعَيانِ ضرورةَ عدمِ الاستخفافِ بذلك الاحتمالِ أبداً.
لَم يَشرحْ أيُّ رفيقٍ لي علانيةً أسبابَ النقمةِ على كسيرة وعقدِ العزمِ على قتلِها. إذ إنّ موضوعَ الحديثِ كانت حركاتِ الاستحقارِ والتحريضِ والإثارةِ ضدي. ولكن، يستحيلُ أنْ يَكُونَ كلُّ ذلك ذريعةً كافيةً للإقرارِ بقتلِها. ولَطالما ساورني الفضولُ واختلجَتني الشكوكُ بشأنِها: تُرى، هل كانت تفكرُ بحبكِ المؤامرةِ باستمالةِ السائقَين لصفِّها؟ ولَطالما فكرتُ في الدوافعِ الكامنةِ وراء هروبِ أحدِ السائقَين، وشروعِ الآخرِ في محاولةِ انتحار، ثم عبورِه إلى الوطنِ وكأنه يلهثُ وراءَ الموت، ليَصِلَ مرتبةَ الشهادةِ هناك. لقد أرسلتُ صلاح الدين جليك إلى أوروبا بذاتِ نفسي. أما كسيرة، فبات مصيرُها مجهولاً في أواسطِ عامِ 1987، عندما كانت في أثينا، ويُحتَمَلُ أنْ يَكُونَ ذلك بدعمٍ من الاستخباراتِ اليونانية.
وفي تلك الأثناء، سنحَت لي الفرصةُ برحلةٍ إلى بلغاريا سنةَ 1982. وحسب قناعتي، فقد كانت رحلةً رمى البلغاريون من ورائِها إلى معرفةِ موقفي من موضوعِ إرغامِهم الأتراكَ الذين في بلدِهم على الهجرة. ولأولِ مرةٍ استَشَفَّيتُ ركودَ الاشتراكيةِ المشيدةِ هناك. لقد كانت كلُّ رقعةٍ تنضحُ برائحةِ التحريفية. أما رحلتي الثانيةُ إلى البلدانِ الاشتراكيةِ التي كانت بلغاريا من ضمنِها مرةً أخرى، فكانت تحققت في 1987 بمساعدةٍ من الاستخباراتِ الروسية KGB . وربما كانت إحدى آخِرِ الدعواتِ التي تلقيتُها قبلَ انهيارِ الاتحادِ السوفييتيّ. ويَبدو فيما يبدو أنّ المشاكلَ الداخليةَ التي عانَتها تلك الدول، هي التي أسفرَت عن عدمِ تمخضِ تلك الرحلاتِ عن مساندةٍ جادة. وقد تَكُونُ الفائدةُ الوحيدةُ التي جنيتُها منها، هي مساهمتُها في تأمينِ بقائي آمِناً في سوريا. التقَينا خلال تلك السنواتِ بعددٍ كبيرٍ من التنظيماتِ العراقيةِ واللبنانيةِ والفلسطينية. وتبادلنا برقياتِ الصداقة. إلا إنّ أحاديثَ الدعمِ والمساندةِ لَم تَكُ تَلقى الكثيرَ من الصدى على أرضِ الواقع. وأخصُّ بالذّكرِ في هذا المضمارِ حركةَ "فتح" التي كانت أكثرَ مَن استفادَ من وضعي في علاقاتِها مع تركيا. كان اقترابُ أشقاءِ الرئيسِ الأسدِ منا شخصياً أكثر منه تنظيمياً في سوريا. لقد كانوا مخضرمين وبليغي الخبرة. كما كان تعامُلُهم معي عن طريقِ الاستخباراتِ بارعاً حقاً. وكان بوسعِهم إفساحُ السبيلِ أمام تطوراتٍ كبرى، لو أنهم أرادوا ذلك. لكنهم كانوا حَذِرين إزاء تركيا، ويَرمون إلى تحقيقِ التوازنِ مع تركيا عن طريقِنا. وقد حققوا النجاحَ في سياستِهم هذه أيضاً. لكنّ حركةَ الهويةِ والحريةِ الكرديةِ أيضاً عرفَت كيف تجني ثماراً تاريخيةً من هذه العلاقة. وقد تطورَت علاقةٌ شبيهةٌ بها عن طريقِ اليونان. إلا إنّهم لَم يستطيعوا تحقيقَ آمالِهم المعقودةِ على تركيا. أما سياساتُ أمريكا وبلدانِ الاتحادِ الأوروبيّ، فكانت على شكلِ: "اهربْ يا أرنب، أَمسِكْ به يا كلبَ الصيد". ولَم يَزيحوا عن هذه السياسةِ التقليديةِ ولو قيدَ شعرة. إذ لا يضغطون إلى درجةِ الإماتة، ولا يدعمون إلى الحدِّ الذي يُمَكِّنُ من الحل. لقد كانوا عالِمين عِلمَ اليقينِ بمدى الفائدةِ الكبرى التي يقطفونها من حالةِ العقمِ واللاحلّ. هذا ويُرادُ لهذه السياسةِ المُبتَكَرةِ في القرنَين التاسع عشر والعشرين أنْ تُعَمَّمَ على القرنِ الحادي والعشرين أيضاً.
كانت أولُ حملةٍ أنصاريةٍ في PKK قد تعثَّرَت بنقصانِ القيادةِ الميدانية. حيث كان قد ظهرَ إلى الوسطِ تزمُّتٌ ونقصانٌ بدرجةٍ لا يُستَخَفُّ بها. وحقيقةُ المؤتمرِ الثالثِ المنعقدِ في وادي البقاع، كانت تعبيراً صارخاً عن ذلك. إذ كان واضحاً للعيانِ مدى ضرورةِ صياغةِ تحليلاتٍ بشأنِ حقيقةِ القيادةِ الميدانية. وهكذا بدأتُ بنفسي بتدوينِ أولى المحاولاتِ في هذا الصدد. فعملتُ على تسجيلِ العديدِ من الأحاديث. وكتدبيرٍ عمليّ، أُرسِلَ إلى أوروبا مَن تبَقّى من الجيلِ الأولِ في المجموعةِ الأيديولوجية. وبعدَ استشهادِ خيرةِ مرشَّحينا للقيادةِ الميدانية؛ فإنّ الباقين على قيدِ الحياة، والمتحصنين بمكرِهم للبقاءِ أحياءً، وبعضَ العناصرِ التي يُحتَمَلُ أنْ تَكُونَ مندسةً وعميلة؛ كانوا سيحاولون ملءَ الفراغِ القياديِّ الحاصلِ في المرحلةِ الجديدة. وكانت أقنعةُ هؤلاءِ سوف تسقطُ بكلِّ علانيةٍ في غضونِ الحركةِ التصفوية والخيانيةِ البارزةِ فيما بين عامَي 2002 2004. ففرهاد (عثمان أوجالان)، بوطان (نظام الدين تاش)، أبو بكر (خليل أتاج)، سرحد (خضر يالجين)، أكرم (خضر صاري كايا)، جلال، دوغان (من مدينةِ شرناخ)، وكاني يلماز (فيصل دونلايجي)، والكثيرُ من العناصرِ الأخرى؛ جميعُهم كانوا قد أَحكَموا قبضتَهم على الحركةِ موضوعياً، إلى جانبِ العصابةِ الرباعيةِ وعصابةِ الأخوان جوروك كايا. وما فتحَ أمامهم هذه الطريق، كان عدمَ تَبَنّي كوادرِ الجيلِ القديمِ لمهامِّهم كأعضاءٍ في اللجنةِ المركزية، واتِّباعَ الأساليبِ التآمريةِ على الأرجحِ في تصفيةِ عددٍ جمٍّ من الرفاقِ الأوفياءِ والمُخَوَّلين للتَكَفُّلِ حقاً بالدورِ القياديّ، ويأتي في مقدمتِهم معصوم قورقماز ومحمد قره سنغور. والكثيرُ من الدلائلِ تَبسطُ للعَيان أنّه خُطِّطَ للاستيلاءِ كلياً على التنظيمِ بالمؤامرةِ التي كانت دُبِّرَت لي في مطلعِ عامِ 1990. وقتلُ جيم أرسَفَر ، أحدِ مؤسِّسي JİTEM، له علاقةٌ كثيبةٌ بهذا المخطط. أما اعترافاتُ عميلَين اثنَين كانا قد صَرَّحا بها إلى قناةِ ستار الفضائية Star TV، والتي مفادُها "كُنا قد أُمِرنا بالقبضِ على أوجالان حياً، لا ميتاً"؛ فكانت تُشَكِّلُ رأسَ الخيطِ الذي يهدينا إلى الطريقِ ويُنِيرُنا في هذا الموضوع. علاوةً على أنّ حادثةَ استشهادِ حسن بيندال كانت إشارةً صريحةً في هذا السياق. وما كان حصلَ في تلك الفترةِ أيضاً، هو تصفيةُ كلِّ كوادرِ الهيئةِ القياديةِ الأوفياء والمخلصين في آمد، فيما خَلا العناصرِ العصاباتيةِ من أمثالِ سعيد جوروك كايا وشمدين صاكك، وكذلك تصفيةُ الدكتور باران في ديرسم. أما ولايةُ بوطان، فكانت تُرِكَت بالأساسِ لإنصافِ جميل إيشيك وأعوانِه. بالتالي، كان الدورُ قد وصلَ إلى حلِّ شأني في وادي البقاع.
كلُّ مشاكلِ التحولِ إلى PKK وإلى "قواتِ تحريرِ كردستان HRK" وإلى "جبهة التحرير الوطنية الكردستانية ERNK"، جميعُها كانت عالقةً كما هي. وكانت جميعُ المشاكلِ منهالةً عليَّ. بينما الأشخاصُ المخلصون كانوا غيرَ ضليعين سوى في الموتِ المشرِّف. أما تذليلُ المشاكلِ التكتيكيةِ والتغلبُ عليها، فكان لا يخطرُ ببالِهم قطعياً. لَم تَكُن قليلةً أمثلةُ التضحياتِ الجِسامِ والجرأةِ العظيمة. ولكن، ما كان للتضحيةِ والجسارةِ أنْ تَكفيا لوحدِهما في حلِّ القضايا التكتيكيةِ والميدانيةِ العالقة. لذا، ومع حلولِ ربيعِ 1987، انعكفتُ على منهجِ وطريقةِ التحليل، بغيةَ إيجادِ حلٍّ لتلك المشاكل. فبينما كانت آرائي بشأنِ المواضيعُ التي كنتُ أعالجُها سابقاً تُحَوَّلُ إلى كُرّاسات، فقد جهدتُ هذه المرة إلى تحليلِ القضايا وسَبرِ أغوارِها مع تسجيلِها على كاسيتاتِ التسجيلِ الصوتيِّ والفيديو. وكانت تجلسُ مقابلي مجموعاتُ التدريبِ المُكَوَّنةُ من حوالي أربعمائةِ شخصٍ تمَّ فرزُهم على شكلِ دوراتٍ تدريبيةٍ مدةُ كلِّ واحدةٍ منها ثلاثةُ أشهر. ما كان يجري آنذاك هو سياقٌ جديدٌ من التدريب، يتلقاه كلَّ عامٍ ما يناهزُ الألفَ شخصٍ من المُرَشَّحين لعضويةِ الأنصار. وكان الهدفُ من هذه الدوراتِ التدريبيةِ هو سدُّ الطريقِ أمام كافةِ الممارساتِ التصفويةِ المفروضةِ علينا من الداخلِ والخارجِ على حدٍّ سواء. وعلى ضوئِها كادت التصفويةُ تصبحُ أمراً بعيدَ المنال، وبقيَت مطامعُ مَن عقدوا آمالَهم عليها غصةً في حُلوقِهم. ويَلُوحُ فيما يَلُوحُ أنّ البعضَ كان ينتظرُ تصفيتي والقضاء عليَّ بفارغِ الصبر. كانت كفةُ تلك الآمالِ المعقودةِ راجحة، ولا تزالُ تَبِعاتُها موجودةً حتى الآن. أما مَن أرسلناهم إلى أوروبا من الرفاقِ المنتمين إلى الجيلِ القديم، فكانوا اعتُقِلوا اعتباراً من عامِ 1987، مع بدءِ حملةِ الهجومِ التي شُنَّت بزعامةِ ألمانيا. وهذه الحادثةُ بِحَدِّ ذاتِها تكفي للدلالةِ على أنّ ألمانيا هي مركزُ شبكةِ الغلاديو الأوروبيّ، ولإيضاحِ دوافعِ حملةِ الغلاديو المستَهدِفةِ لـPKK. أي أنّ ألمانيا انشغلَت بتصفيةِ PKK أكثر من الجمهوريةِ التركيةِ بذاتِها، بل وفعلَت ذلك بنحوٍ أكثر مكراً وخفاءً وتخطيطاً. ومع ذلك، فإنّ ارتباطَ الشعبِ الكرديِّ المتواجدِ في الساحةِ الأوروبية، والتزامَه بالحركة، والتفافَه حول مطالبِه في الهويةِ والحرية؛ كان كافياً بما يزيدُ عن الحدِّ لشَلِّ جميعِ المخططاتِ التصفويةِ المنسوجةِ عن طريقِ أوروبا وإفراغِها من مضامينِها. ولولا التفافُ شعبنا في سوريا وأوروبا حولنا بشكلٍ منقطعِ النظيرِ في تلك الفترة، لَكان الحفاظُ على PKK صامداً، وعلى الحربِ الثوريةِ منتعشةً ومستمرةً أكثر صعوبةً بكثير. ومنه، يتعينُ استذكارُ ومباركةُ شعبِنا الذي في كِلتا الساحتَين بكلِّ تقديرٍ وإجلال.
لأولِ مرةٍ بدأتُ في شهرِ آذار من عامِ 1987 بصياغةِ التحليلاتِ المتعلقةِ بموضوعِ المرأة. إذ كنتُ شعرتُ حتى النخاعِ بالبلاءِ الذي ابتُليتُ به، وبالتالي ابتُلِيَت به الحركةُ من خلالِ المرأة. ولأولِ مرةٍ حاولتُ صياغةَ جوابٍ إزاء مواقفِ "كسيرة" التي كانت تُجَنِّنُ وتُغيظُ رفاقي الأعزاء، وذلك بسلوكِ أسلوبٍ جديد، ألا وهو أسلوبُ التحليل. وما حفَّزَني على ذلك كان عدم تَقَبُّلي أو حزمي لمعاقبةِ بعضِ النساءِ بالموت، وفي مقدمتِهنّ عائشة أكارصو التي من مدينةِ بازارجق Pazarcık، وصائمة آشكين الديرسمية، وآيتان النصيبينية. لقد باتت قضيةُ المرأةِ تكتسبُ طابعاً جدياً باضطراد. ومع كلِّ دورةٍ تدريبية، كنتُ أخطو خطوةً أخرى على طريقِ زيادةِ مستوى التعمقِ في التحليلاتِ بهذا الشأن. هذا وإنّ تزايدَ عددِ الشاباتِ بين صفوفِنا تصاعدياً، كان يُحَتِّمُ علينا إيجادَ أجوبةٍ جذريةٍ لمعضلةِ حريةِ المرأة. لكنّ بلاءَ كسيرة الذي ابتُليتُ به دون رحمة، كان يلعبُ دوراً رئيسياً في ذلك. إذ كان من غيرِ الصائبِ قتلُها. لكنّ العيشَ معها ولو ساعةً واحدة، أضحى أمراً عصيباً. بَيْدَ أنّ الكلماتِ التي تَلَفَّظَت بها عندما استشهدَ الرفيقُ معصوم قورقماز، تشيرُ إلى مدى حذاقتِها وذكائِها ومتابعتِها لشؤونِ التنظيمِ بعينٍ صحيحة. إذ قالت: "لقد ذهبَ معصوم قورقماز أيضاً، أي أكثرَ شخصٍ وَثقتَ به. فماذا أنتَ فاعلٌ الآن؟". وكأنها كانت تنتظرُ مني التراجعَ والاستسلامَ لها. وهكذا باشرتُ بحملةِ 1987 والغيظُ الحانقُ والآلامُ الأليمةُ النابعةُ من هكذا مواقف كانت تجتاحُني. وحسبَ الأسلوبِ التقليديّ؛ كان ينبغي قتلُها ألفَ مرة، أو كان بالمقدورِ التغلبُ على المشكلةِ برَميِ الطلاقِ عليها. لكنّ موقفاً كهذا كان يعني الهزيمةَ الأيديولوجيةَ والسياسيةَ بالنسبةِ لي. علاوةً على أنّ تسليمَ التنظيمِ والحزبِ لها، أو مشاطرتَها إياهما كان يصبُّ في نفسِ المصبّ. وحتى لو كانت عنصراً صادقاً، فقد كانت متطفلةً تفتقرُ إلى الكدح. وكانت تقتصرُ فقط وفقط على المشاهَدةِ والرصدِ ببراعة، ثم التحفيزِ على إطلاقِ الحملاتِ التكتيكيةِ بمعناها السلبيّ. لذا، كنتُ أودُّ تحليلَ كلَّ ما هو معنيٌّ بالمرأةِ متجسداً في شخصيتِها. زِدْ على ذلك أني كنتُ أرغبُ في صياغةِ ردودٍ جذريةٍ بشأنِ الحريةِ والمساواة، فيما يتعلقُ بعلاقاتِ المرأة الرجل التي كانت تفرضُ نفسَها طردياً فيما حولي.
أما إشراكُ النساءِ في نشاطٍ كالتنظيمِ العسكريّ، حيث تطغى عليه بصماتُ الرجال، وتَسودُها الأيديولوجيةُ الرجوليةُ الحاكمةُ مائةً بالمائة؛ فكان خطيراً للغاية. لقد كان أَشبَه بوضعِ الديناميتِ في قلبِ النشاط. فمفاهيمُ الرجالِ والنساءِ السائدة، لَم تَكُنْ تذهبُ أبعدَ من المفهومِ الجنسويِّ التقليديِّ الفظ. حيث لَم تتنامى لديهم بَعدُ مفاهيمٌ تتخطى إطارَ إثارةِ بعضِهم بعضاً بإشارةٍ من العينِ والحاجب. لقد كنتُ جلبتُ البلاءَ الأكبرَ لنفسي بنفسي. فحتى الزعيمُ الأنصاريُّ الشهيرُ تشي غيفارا لَم ينبذْ الإشباعَ الجنسيّ، بل وكان قَبِلَ به كحاجةٍ ضروريةٍ لا بدّ منها، عندما ضمَّ النساءَ إلى صفوفِ الأنصار. لكنّ تَقَبُّلي لهذا الأمرِ ذاتِه، وفرضَ قبولِه على نفسي وضمن النشاطاتِ التنظيمية، وخاصةً ضمن النشاطاتِ العسكرية؛ كان سيعني تسويةَ أمرِنا والقضاءَ على أنفسِنا بأنفسِنا منذ البداية.
في حين كان تركي المرأةَ وشأنَها كما هي، يكفي بمفردِه لتصفيتِنا حسبَ وضعِنا القائم. إذ كنتُ أفتقرُ إلى الرفيقِ أو الفريقِ الذي يتحكمُ بالغرائزِ الجنسيةِ أو يُسَخِّرُها بمنوالٍ قويمٍ في خدمةِ المصالحِ التنظيميةِ وبالتأسيسِ على أرضيةِ الفنِّ السياسيّ. هذا وكان إقصاءُ المرأةِ كلياً، وإنجازُ الثورةِ من دونِها أمراً محالٌ أنْ يَكُونَ صائباً، سواء بالنسبةِ لي أم على صعيدِ التنظيم. وعليه؛ كان يتبقى أسلوبٌ واحدٌ أمامنا: فـ"التقييدُ بالزواج" على حدِّ التعبيرِ الشعبيّ، و"الزواجُ الثوريُّ" الذي صَيَّرَته التنظيماتُ اليساريةُ الثوريةُ موضةً رائجة؛ قد يَكُونُ حلاً لنا. لكنني لَم أَكُ أنظرُ بعينِ الصوابِ إلى هذه الأساليب. ذلك أنه، وبالإضافةِ إلى إفراغِ الطاقةِ الثوريةِ من محتواها عبرها، فحتى الظروفُ الفيزيائيةُ كانت لا تسمحُ بهذا النوعِ من الزيجاتِ أو عقدِ القران. حيث ما كان لِينتهيَ إلا إلى لملمةِ أشتاتِنا، وإرساءِ سُفُنِنا في موانئِ أوروبا، والتحولِ إلى لاجئين فيها؛ أو الانخراطِ بين صفوفِ الشعب، والعيشِ بنحوٍ متطفلٍ وعالةٍ عليه باسمِ التنظيم. وهذا بدورِه كان شكلاً آخر من أشكالِ التصفوية.
لكنّ الطريقَ التي اختَبَرتُها، كانت العزمَ على نمطٍ من العلاقةِ لَم يَجْرِ التفكيرُ به في ثقافةِ الشرقِ الأوسط، بل ولَم يخطرْ على البالِ بتاتاً. ألا وهو المجازفةُ والصراعُ حتى آخِرِ رمق، بسلوكِ طرازٍ من الحياةِ ضمن إطارٍ من العلاقاتِ والتناقضاتِ الدياليكتيكيةِ خارجَ نطاقِ الزواجِ الذي يُعَدُّ ضرورةً اضطرارية. وكنتُ أرمي من ذلك إلى تعريفِ الجنسَين، وبالأخصِّ المرأةِ على وجودِها الإنسانيِّ الحقيقيّ، وعلى دربِ تحررِها على ضوءِ ذلك. وكان هذا امتحاناً عظيماً للروحِ الثوريةِ الداخلية. فكثيراً ما استُثمِرَ واستُخدِمَ لنوايا مُغرِضة، وخُدِعَ المئات. إلا إنّ المرأةَ الشجاعةَ والحميمةَ والعاقلةَ والجميلةَ أيضاً قد أَفرَزَتها هذه النشاطاتُ حقاً. وقد قَدَّمنا عدداً جماً من خيرةَ فتياتِنا الذكياتِ والحسناواتِ على دربِ الشهادة. وأمسَيتُ وكأنني أخلقُ نفسي كلَّ يومٍ لأستطيعَ الردَّ على حسراتِهنّ وآمالِهن. ولكنني عشتُ والألمُ ينهشُ فيَّ دوماً، لتقصيري في الإيفاءِ بذلك. كنتُ قد أنجزتُ اللقاءَ التاريخيَّ الحرَّ مع المرأة. ولكن، ما كان مُقَدَّراً عليَّ أبداً أن أنجحَ كمثالٍ معاصرٍ لـ"فرهاد" في الوصولِ إلى "شيرين". إلا إنني بالمقابل، لَم أُؤمِنْ كثيراً بجدوى أو ضرورةِ تحقيقِ اللقاءِ وتجاوُزِ الوضعِ المنصوصِ عليه في هذه الحكايةِ العامرةِ بالشَّوقِ والحنين. إذ كنتُ قادراً على إدراكِ أنّ اللقاءَ في ظلِّ الظروفِ السائدة (في أحضانِ النُّظُمِ المهيمنة) يعني موتَ العشق. بناءً عليه، باتَ المهمُّ هو التمكنُ من العملِ بعشقٍ وهيامٍ من أجلِ حلِّ كافةِ القضايا الاجتماعية. أو بالأصح، فأخلاقُ العشقِ الحقيقيّ، كانت تفيدُ بالتحلي بالقدرةِ على الكفاحِ تجاه القضايا الاجتماعية، والاتسامِ بكفاءةِ حلِّها. ومنه، فمَن لا يتحلى بتلك المقدرةِ والكفاءة، أو مَن هو عاجزٌ عن الاتسامِ بها؛ لا يُمكنُه أنْ يمتلكَ العشقَ أو يتصفَ بأخلاقِ العشق.
الشرطُ اللازمُ لتحَقُّقِ العشقِ حسبَ فلسفةِ هيغل، هو تَحَقُّقُ توازنِ القوى بين المرأةِ والرجل. هذا الشرطُ الضروريُّ، ولكنْ غيرَ الكافي، يشيرُ إلى المرأةِ المتحليةِ بالقوة. نحن لا نتحدثُ هنا عن توازنِ القوى الفظةِ والمادية. بل موضوعُ الحديثِ هنا هو توازنُ القوى الجسديةِ والنفسيةِ والاجتماعية. بمعنى آخر، فالمُرادُ قولُه هنا هو استحالةُ وجودِ عشقٍ للمرأةِ القابعةِ تحت نيرِ أقدمِ أشكالِ العبوديةِ وأكثرها غوراً. ولكي أستطيعَ ملءَ مضمونِ هذا الرأي الفلسفيِّ الذي له نصيبُه من الصحة، وأتمكنَ من تعزيزِه على أرضِ الواقع؛ فقد أَولَيتُ الأهميةَ الأولى لتقويةِ المرأةِ التي بين صفوفِنا وتعبئتِها من جهاتٍ عدة (أيديولوجياً، سياسياً، أخلاقياً، جمالياً، جسدياً، بل وحتى عسكرياً "لأجلِ الدفاعِ عن الذات"، واقتصادياً، ورياضياً، وهلمَّ جرة). لذا، كنتُ أهتمُّ بالمرأةِ وأَقتربُ منها باحترام، وأتعاطى معها بثَباتٍ ورسوخ. وكنتُ أعلَمُ علمَ اليقينِ أنّ الطريقَ إلى احترامِ المرأة، وتقديرِها، والتعاملِ معها بمبدئيةٍ وثبات، وسبيلَ نيلِ ودِّها وحبِّها، والوصولِ إلى الصائبِ والحسَنِ والجميلِ حيالَها؛ إنما تمرُّ من مساندتِها وتعزيزِ شأنِها. وتأسيساً عليه، ما كان للعشقِ أنْ يتحققَ من دونِ تقويةِ المرأة. لقد كنتُ مؤمناً إيماناً مطلقاً بمصداقيةِ هذا التعريف، وواثقاً كلَّ الثقةِ أنه موضوعٌ لا يَحتَمِلُ أيَّ تَراخٍ أو تنازُل. ومع ازديادِ اكتسابِ هذه المهارةِ والقوةِ تدريجياً، كانت نشاطاتُ المرأةِ تغدو قَيِّمةً وثمينة. فكانت الفتياتُ يُحَدِّقن إليَّ ويَحضُنّني، وكأنهن استيقظنَ للتوِّ من سُباتٍ، بل من كابوسٍ مزعجٍ دامَ آلافَ السنين. ورغمَ الحذرِ والحيطةِ الفائقةِ التي أتحلى بها أثناء تناولي لهذه المواضيع، فحتى أنا لَم أترددْ في احتضانهنّ بودٍّ وشوق، وفي جعلِهنّ تاجَ رأسي.
ولَطالما فرضَ مفهومان خاطئان نفسَيهما دوماً في هذا المضمار: فلَطالما أَنهَكَنا أولئك الذين سلكوا مواقفاً منحطةً كلما سنحَت لهم الفرصة، بذريعةِ تَمَلُّكِ بعضِهم بعضاً بشكلٍ تقليديٍّ وبإشارةٍ من العينِ والرأس، وذلك بناءً على جنسانيةٍ فظةٍ تفتقرُ إلى أيةِ أرضيةٍ أيديولوجيةٍ أو سياسيةٍ أو عملية. ومقابل ذلك، فسلوكُ الزهدِ والتَنَسُّكِ بفظاظة، أي اتِّباعُ موقفِ تجاوُزِ التأثيراتِ الجنسيةِ بكبتِ النفْس، لَم يَكُنْ يَنُمُّ عن نتيجةٍ أبعدَ من تعقيدِ المشكلةِ أكثر فأكثر. من هنا، فالنشاطاتُ المُسَيَّرةُ على ضوءِ الحريةِ والمساواةِ والديمقراطية، باتت المعيارَ القويمَ للحريةِ الاجتماعية. والمستجداتُ الميدانيةُ أَثبَتَت مدى صحةِ وحُسنِ وجمالِ الموقفِ المبدئيِّ الراسخ.
تمَّت المثابرةُ حتى مستهلِّ أعوامِ التسعينياتِ وبوتيرةٍ متزايدة، على صياغةِ التحليلاتِ في المجموعاتِ التدريبيةِ التي كان يتلقاها ما يناهزُ مجموعُه الألفَ شخصاً في السنة. هذا ولَم تقتصرْ هذه النشاطاتُ فقط على تذليلِ الأزمةِ التي مرّت بها الحملةُ الأنصاريةُ في عامِ 1986، بل وانتقلَت بالحربِ الأنصاريةِ إلى طورٍ جديدٍ يُؤَمِّنُ لها الرقيَّ إلى مستوى تحقيقِ التوازنِ الاستراتيجيّ. وعودةُ تكاثُفِ الدعمِ الشعبيِّ لنا خلال عامَي 1991 1992، قد وضعَت الحلَّ السياسيَّ في الأجندةِ بدرجةٍ جادة. في واقعِ الأمر، كان تورغوت أوزال بدءاً من سنةِ 1985 يسلكُ موقفاً مُستَنسِراً من خلالِ اتِّباعِ مفهومٍ حربيٍّ جديد. وكانت إدارةُ حالةِ الطوارئِ قد تأسسَت في 1987. في حين إنّ تنظيمَ JİTEM المحَصَّنَ بصلاحياتِ ما فوق القانون، كان كُلِّفَ بمَهامِّه بناءً على تصييرِ كافةِ أجهزةِ الدولةِ احتياطياً لديه. أما العملياتُ العسكريةُ الخارجةُ عن التكتيك، التي قامت بها العصابةُ الرباعيةُ والعناصرُ المماثلةُ لها بدءاً من 1987 (استهداف النساء والأطفال)؛ فكانت على علاقةٍ مباشرةٍ وغيرِ مباشرةٍ مع JİTEM. بالمقابل، فالاعتقالاتُ الجاريةُ في ألمانيا ووضعُ "حزب الله" في الأجندةِ في نفسِ التاريخ، كان مؤشراً على أنّ ذلك جزءٌ من سياقِ التصفية، وأنّ شبكةَ الغلاديو قائمةٌ على مهامِّها بفعاليةٍ مؤثرةٍ فقط وفقط من أجلِ استهدافِ PKK وحركةِ الحريةِ الكردية. بمعنى آخر، كانت حملةُ الغلاديو المضادةُ للثورةِ تتحققُ ضد حملةِ الحربِ الثوريةِ الجديدة. وقد شهدنا تصعيداً لسياقِ كِلتا الحملتَين المتقابلتَين حتى مطلعَ أعوامِ التسعينيات. ولأولِ مرةٍ في تاريخِ كردستان، كان قد حصلَ التعرفُ على تكامُلِ نضالِ الهويةِ والحريةِ في جميعِ أجزاءِ الوطن، وفي كلِّ منطقةٍ تقريباً من كلِّ جزءٍ على حدى. كما ولأولِ مرةٍ في تاريخِ الجمهوريةِ التركيةِ كان قد بدأَ التفكيرُ الجادُّ في تلك الأيامِ بخيارِ الحلِّ السياسيّ.
كان تورغوت أوزال قد قَيَّمَ إحصائيةَ سبعِ سنواتٍ من الحربِ الخاصة، ورأى بأمِّ عينَيه أنّ تركيا قد أُقحِمَت في مأزقٍ عميقٍ بلا قعر. فعملَ بمبادرتِه الشخصيةِ بالتحديدِ على زجِّ خيارِ السِّلمِ والحلِّ في جدولِ الأعمالِ بموقفٍ راديكاليّ (لَم نستطعْ تشخيصَ ذلك في حينِه)، بل وبمنوالٍ يحتوي الموصلَ وكركوك أيضاً (أي جنوب كردستان) بين ثناياه. وتصاعدَت مقاومةٌ ضد ذلك من طرفِ الجيشِ والمعارضة. هذا وكان يستحيلُ على كلٍّ من أمريكا وإنكلترا، اللتَين تَعتَبِران العراقَ عموماً وكردستان العراقِ خصوصاً منضويةً تحت هيمنتِها منذ عامِ 1925، أنْ تَقبَلا بهذا الموقفِ الجديدِ الذي اتَّخذَه أوزال. أما إسرائيل، فكانت تنظرُ إلى كردستان العراقِ من الأساسِ بأنها إسرائيلٌ بِدئية. واقتطاعُ الموصل وكركوك (أي كردستان العراق) من ظلِّ هيمنةِ الجمهوريةِ التركية، كان قد تحقَّقَ حصيلةَ وفاقِ مصطفى كمال مع الإنكليز (الساهرين على حمايةِ الحركةِ الصهيونيةِ في طَورِ تأسيسِ إسرائيل)، بعدَما أضحى أمام خيارَين: "إما الجمهورية، أو الموصل وكركوك". وبمعنى آخر، ما كان للجمهوريةِ أنْ تَرى النور، في حالِ عدمِ تسليمِ الموصل وكركوك للإنكليز. والكلُّ على علمٍ بأنّ قيادةَ مصفى كمال أُرغِمَت على تسليمِ الموصل وكركوك إلى الإنكليز. وإلا؛ كانت مؤازرةُ ودعمُ التمرداتِ الكرديةِ المندلعةِ في 1925، وحملاتُ الاعتقالِ ستَغدو قائمةً في الأجندة. وكان يُحَسَّسُ بهذه الاحتمالات.
من هنا، يُعَدُّ ذاك الوفاقُ من أهمِّ العواملِ المتسترةِ خلف القضيةِ الكردية، ولا يزالُ كذلك حتى الآن وبكلِّ وطأتِه. ورؤساءُ الوزراءِ الثلاثةُ الذين نَوَوا رفعَ هذا الوضعِ وإزالتَه من الوسط، قد دفعوا حياتَهم ثمناً لذلك. فإعدامُ مندريس ، وقتلُ أوزال، وفلجُ أجاويد ومن ثم قتلُه؛ كلُّ ذلك مرتبطٌ عن قُربٍ بالسياساتِ المعنيةِ بكردستان العراق. وبحوثُ يالجين كوجوك في هذا السياقِ مفيدةٌ ومُنَوِّرة. لقد برزَت الحقائقُ التاليةُ إلى الميدان: حلُّ القضيةِ الكرديةِ كلٌّ متكامل. ولا يُمكنُ لأيِّ جزءٍ من كردستان بلوغُ الحلِّ بمفردِه. ومن الصعبِ بمكان ولوجُ القضيةِ الكرديةِ طريقَ الحلِّ في الأجزاءِ الأخرى، ما لَم تُحَلّ في كردستانِ تركيا، التي تُشَكِّلُ الجزءَ الأكبر. علاوةً على أنّ الأكثرَ لفتاً للأنظارِ هنا، هو أنّ مربضَ الفَرَسِ في حلِّ القضيةِ الكرديةِ يكمنُ في يدِ القوى المهيمنةِ الرأسمالية، وأنه ليس سهلاً إيجادُ أيِّ حلٍّ من دونِها، أو بالتغافُلِ عن مصالحِها. وإذ ما أُريدَ حلُّها، فسيُدفَعُ الثمنُ باهظاً عندئذ. ومبادرةُ تورغوت أوزال في الحلّ، كانت قد بسطَت هذه الاحتمالاتِ الواردةَ أمام الأعينِ بكلِّ إجحافٍ وترويع.
رغمَ قلةَ خِبرتِه السياسيةِ والدبلوماسية، إلا إني لَم أستطعْ الوثوقَ بنداءِ الحوارِ والحلِّ الذي أَطلَقَه أوزال (بوساطةِ جلال الطالباني) لشهورٍ عديدة. وفكرتُ في احتمالَين: أولُهما أنه قد يَكُونُ أوزالُ يحبكُ لعبةً تكتيكية. وثانيهما أنه يجهلُ بطبيعةِ ما هو منشغلٌ به. وقد أثبَتَ التاريخُ صحةَ افتراضي في غضونِ فترةٍ وجيزة. لقد تألمتُ وحزنتُ على قتلِ أوزال بوحشية. وقطعتُ على نفسي العهدَ بمتابعةِ كلِّ المستجداتِ المعنيةِ بإسدالِ ستارِ اللغزِ المحيطِ بموتِه. أما رئيسُ AKP رجب طيب أردوغان، الذي يُقارنُ نفسَه بأوزال؛ فإما أنه يجهلُ حقيقةَ الأخير، أو أنه مندفعٌ وراء التحريف. لَم يَكُنْ أوزال يقولُ "لن أعقدَ العلاقةَ مع قائدِ PKK". بل وكان اتسمَ بدفءِ وحرارةِ الإنسانِ الحكيمِ عندما قال بذاتِ نفسِه "ليس كلُّ ما فَعَلَه PKK خطأ" (جلال الطالباني هو مَن نقلَ قولَه هذا إلينا). وببصيرةٍ أوسع آفاقاً مما كنا عليه، كان قد ذكَرَ أسبابَ أهميةِ الحوارِ والأهميةِ المصيريةِ للحلِّ بين الطرفَين. في الحقيقة، كان قد بلغَ نقطةَ الحلِّ السياسيّ، بعدَما أدركَ وشعرَ بمدى وحشيةِ الحربِ ودمارِها وترهيبِها. ومن خلالِ قانونِ تخفيضِ العقوباتِ المشروط، كان قد أمَّنَ إطلاقَ سراحِ بعضِ كوادرِ PKK من السجونِ دون شروط. بناءً عليه، فمن غيرِ الواقعيِّ أنْ يقارنَ رجب طيب أردوغان نفسَه بأوزال. فسياساتُه أدنى إلى أنْ تَكُونَ صورةً من سياساتِ تشيللر، ولكنْ بنحوٍ أكثر تخطيطاً وعُمقاً بأضعافٍ مضاعفة. ومع ذلك، يتعينُ الانتظارُ والمتابعةُ لإعطاءِ حُكمٍ نهائيٍّ بحقِّه.
كثيراً ما تحدثنا عن كونِ سنةِ 1993 سنةً دراماتيكية. فحسبَ رأيي، سنةُ 1993 هي التاريخُ الذي استولَت فيه شبكةُ الغلاديو على جهازِ الدولة. فهي سنةٌ لَم تشهدْ انقلاباً سياسياً وحادثةَ اغتيالٍ فحسب، بل وشهدَت أيضاً الكثيرَ من الانقلاباتِ السريةِ والمؤامراتِ والدسائسِ والمجازر. بل وأكثر من ذلك، فهي سنةُ التجريدِ من الكردايتيةِ بأوسعِ النطاقاتِ التي عرفَها تاريخُ كردستان. وهي السنةُ التي بدأَت فيها الفاشيةُ التركيةُ البيضاء المدعومةُ من قِبَلِ الناتو وإسرائيل بإرهابِ الإبادةِ الجماعيةِ الذي استخدمَته إلى آخرِ درجة، وواظبَت عليه حتى عامِ 1996. أي إنها سنةُ قمةِ الإبادةِ الجماعية. كما إنها سنةُ الحياةِ أو الموتِ بالنسبةِ لملايين الكردِ الذين شهدوا المجازرَ الشعبيةَ المروِّعةَ في الكثيرِ من المناطقِ والبَلدات (وفي مقدمتِها شرناخ، جزرة، نصيبين، وليجة)، وحرقَ وتدميرَ حوالي أربعِ آلافِ قرية. وهي السنةُ التي أُفرِغَت فيها القرى من أهاليها بالإكراه، وقُتِلَ فيها الكثيرُ من القرويين، وهُجِّرَ الباقون منهم سائرين على دربِ النزوحِ والنفي بأيادٍ فارغة. الخاصيةُ الأخرى الهامةُ لهذه السنة، هي تصفيةُ الدولةِ الرسمية. إذ كان قد برزَ إلى الوسطِ ضربٌ من ضروبِ دولةٍ جديدةٍ تُسمى "دولة العصابات". ومَن يَقومون بذلك، كانوا مقتَنعين بأنهم بهذا الشكلِ قد حققوا ما يماثلُ حربَ التحريرِ التي خاضَها مصطفى كمال ضد اليونان، بل وأنجزوا ما هو أضحمُ وأعظم. وكانت النزعةُ الأتاتوركيةُ لدى تشيللر تدورُ على كلِّ لسان. بَيْدَ أنّ الكردايتيةَ كانت بمثابةِ شريكٍ أصليٍّ في تكويناتِ السلطةِ والدولة، والتي دامَت أربعةَ آلافِ عاماً على نفسِ الأراضي. أما الآن، فيُرادُ تصفيتُه وتسويةُ أمرِه من الأساس.
كانت الأمراضُ القديمةُ تستمرُّ مستشريةً ومتفاقمةً بين صفوفِ النضالِ الثوريِّ الذي يَرودُه PKK. وكان قد أُضيفَت عناصرٌ جديدةٌ أخرى إلى هذه الأمراض. وهكذا كان قد ظهرَ بشكلٍ غيرِ متوقَّعٍ ما يُقالُ أنه "جيلٌ وسطيٌّ" لا يعرفُ الحياء، ولا يتوانى إطلاقاً عن ارتكابِ الأخطاءِ والنواقصِ بشراسةٍ وعماءٍ أنكى وأسوأ ألفَ مرةٍ مما سقطَ فيه الجيلُ القديم. وقد اعتقدَ هؤلاء أنّ صمودَهم يُعزى إلى نجاحاتِهم، فانغمسوا في أجواءٍ من نشوةِ النصر. بَيْدَ إنّ هؤلاء العناصر كانوا من راصِفي أرضيةِ التصفويةِ الثقيلةِ الوطأةِ المُعاشةِ في شهورِ الصيفِ من سنةِ 1992، التي كانت سنةً مصيريةً بالنسبةِ إلى الأنصار. فلو أنّ القوادَ الزائفين لَم يقعوا في هوى الذات، واستوعبوا معنى السندِ التاريخيِّ الذي قدَّمناه لهم؛ لَكان بإمكانِ الأنصارِ التحكمُ بالأوضاعِ كماً ونوعاً وعلى أساسِ حمايةِ المنطقةِ واللوذِ عنها. ولَكان بالمقدورِ الوصولُ إلى جيشٍ أنصاريٍّ يُقاربُ الخمسين ألفَ شخصاً. وقد كانت شتى الإمكانياتُ متوفرةً لتحقيقِ ذلك. ولهذا السببِ بالتحديدِ كان احتمالُ الحلِّ السياسيِّ قد دخلَ الأجندة. إلا إنّ هذه الفرصةَ التاريخيةَ لَم تُنتَهَز. وعوضاً عن ذلك، انجرّوا وراء أهواءِ القيادةِ الطائشة.
كثيرةٌ هي المشاهدُ الشبيهةُ بهذه في التاريخِ الكرديّ. فبدرخان بيك أيضاً كان يمرُّ بوضعٍ مشابهٍ في إقليمِ بوطان عامَ 1847. إذ كان حاكمَ المنطقةِ بجيشِه المؤلَّفِ من خمسةَ عشر ألفِ فرداً. وكان قد ردَّ عنه هجماتِ الجيشِ العثمانيّ، الذي لَم يَكُنْ بالأصلِ قادراً على التحملِ والصمودِ مدةً طويلة. وفي هذه الأثناء بالضبط، برزَت خيانةُ ابنِ أخيه يزدان شير إلى الميدان. فأَعقَبَ ذلك سياقٌ من الانهيارِ والتضعضع، لَم تستطعْ إمارةُ بوطان أنْ تنتعشَ إثرَه مرةً ثانية. وهكذا، ضاعَت تقاليدُ آلافِ السنين، وأُفلِتَت من اليدِ مقابل لا شيء. فمزاعمُ يزدان شير كانت تصبُّ في أنّ الإمارةَ من حقِّه. لكنّ الأسرةَ كانت ستُرسَلُ في آخرِ المطافِ إلى المنفى، بحيث لن تعودَ ثانيةً إلى بوطان. بل وكانت لن تشادَ إمارةُ بوطان مرةً أخرى. وبين صفوفِنا نحن أيضاً، كانت قد أُثيرَت وأُجِّجَت أجواءٌ حماسيةٌ تشيرُ إلى أنّ القيادةَ من حقِّ الكثيرِ من القوادِ الزائفين، يتصدرُهم في اللائحةِ عثمان السافل. وقد كان هؤلاء يَعملون أساساً بتقاليدِ البارزاني والطالباني. إضافةً إلى النفخِ فيهم واستثارتِهم بالقول مثلاً: "أنتم أقوى بكثير من آبو APO. وما الذي يفعلُه هو عدا الجلوسُ في الشام! لذا، يجب أنْ تَكُونوا أنتم أصحابَ كلِّ شيء". وهكذا كانوا نقشوا هذه الفتنةَ في عقولِهم، وعشَّشوها في أفئدتِهم جيداً. وفي الوقتِ الذي كانت تستعدُّ فيه حركتُنا لتحقيقِ نقلةٍ نوعية، كانت قوى KDP وYNK، التي هي على علاقةٍ وثيقةٍ أساساً مع هيئةِ الأركانِ العامةِ التركية، ستهجمُ علينا من الجنوب؛ بينما سيهجمُ الجيشُ التركيُّ من الشمال. هكذا قاموا بالتمشيطِ المشتركِ والمدروسِ جيداً، بغيةَ الإيقاعِ بحركتِنا إلى الحضيض، والدفعِ بها إلى عتبةِ التصفية، وإقحامِها في غمارِ حربٍ هزيمتُها واضحةٌ ومحتومةٌ سلفاً. والنتيجةُ كانت مُفجِعة. ألا وهي وصولُ المئاتِ من خيرةِ مقاتِلينا ومناضلينا مرتبةَ الشهادة، وإرغامُ الآلافِ منهم على قَبولِ ظروفِ الاستسلام. هذا ويستحيلُ التفكيرُ في أنّ دورَ KDP وYNK العلنيَّ في الحربِ منفصلٌ غلاديو الناتو. ومقابل ذلك، كانت تركيا قد رضيَت بالكيانِ الفيدراليِّ في كردستان العراق، على أنْ تتموقعَ "قوات المطرقة" التركية في جنوب كردستان. وبذلك يَكُونُ قد عُمِلَ على تأمينِ سَرَيانِ اتفاقيةِ 1925.
كان PKK قد عادَ أدراجَه من مشارفِ النصر. والمُعَيِّنُ في ذلك كان على الصعيدِ الداخليِّ نقاطَ الضعفِ وامتداداتِ المؤامرةِ وخيانةَ قوى جنوبِ كردستان، بينما تجسدَ خارجياً في الرغبةِ بمواصلةِ الهيمنةِ الراسمةِ لملامحِ وضعِ كردستان كما هي عليه منذ أعوامِ العشرينيات. الحقيقةُ الأخرى المُبَرهَنةُ هنا، كانت إمكانيةَ نجاحِ شعبٍ منتفضٍ في سبيلِ حقوقِه الأوليةِ في الحريةِ والهوية، مهما كانت القوى المهيمنةُ الداخليةُ والخارجيةُ قوية. في الحقيقة، كانت تجربةُ وقفِ إطلاقِ النارِ التي أُطلِقَت ربيعَ عامِ 1993، ومحاولاتُ البدءِ بالحوار، قد تبيَّنَ مصيرُها أساساً بعد إضاعةِ فرصةِ الفوزِ العسكريِّ في 1992. كان الحِلفُ المناهِضُ لتورغوت أوزال وأشرف البدليسيّ قد دنا كثيراً من فرصةِ الاستيلاءِ التامِّ على السلطة. وكانوا قد قرروا القضاءَ على أوزال. إذ كانوا سيَعتَبِرون بحثَ أوزال عن إمكانيةِ الحوارِ مع قائدِ PKK حجةً لتجريمِه بالخيانة، وسيستغلون ذلك للحطِّ من شأنِه وخلعِه. هذا وكانوا مُصَمِّمين على بسطِ صمتِ الموتِ في شمالِ كردستان، بالاستفادةِ من فرصةِ الإيقاعِ بأوزال. وكانوا من الطينةِ التي سوف تسحقُ وتدوسُ على كلِّ قوةٍ تقفُ في وجوهِهم. لقد كان تأسسَ ائتلافٌ معارضٌ قويٌّ للغاية. إذ كان اتحدَ كلٌّ من ديميريل، تشيللر، إينونو، توركيش، أربكان، والأجهزةِ الإعلاميةِ والجيشِ بنسبةٍ كبيرة. والغايةُ الوحيدةُ لهذا الائتلاف، كانت خنقَ طموحاتِ الكردِ في نيلِ الهويةِ والحريةِ دون بد.
ومقابل هذا الحِلفِ الفاشيِّ الذي آزرَته أمريكا وإسرائيل كلياً، بينما ساندَته بلدانُ الاتحادِ الأوروبيِّ جزئياً؛ كان العملُ الأساسيُّ الذي قمتُ به، سيَكونُ شبيهاً بذاك الذي أَعقَبَ عامَ 1986. حيث، وبعد إفراغِ معسكراتِنا التدريبيةِ التي في وادي البقاع، واظَبنا على تدريباتِنا في البيوتِ التي صيَّرناها معسكراتٍ تدريبية، سواء في لبنان، أم في مختلفِ المدنِ السوريةِ وعلى رأسِها دمشق وحلب. وبدءاً من عامِ 1993 وحتى أواخرِ عامِ 1998، عمِلنا على الحفاظِ على وتيرةِ الحركةِ وتأمينِ سيرورتِها، من خلالِ تدريبِ ما يقاربُ الألفَ شخصاً في العام، وتعبئتِهم على أساسِ التحليلاتِ المزدادةِ عمقاً. وبذَلنا الجهودَ الحثيثةَ لإفراغِ مضامينِ التمشيطاتِ الكبيرةِ التي شنَّها الغلاديو في ولايتَي بوطان وبهدينان على وجهِ الخصوص، وبدعمٍ من KDP خلال أعوامِ 1994، 1995، 1996، 1997، و1998. وعمِلنا أساساً بتقويةِ النشاطاتِ في جميعِ المناطق، وتأمينِ ديمومتِها دون أيِّ انقطاع. إلا إنّ القيادةَ التي في الوطنِ كانت لا تنفكُّ مشكلةً قائمة. وكأنه هُيِّئَت الفرصةُ كي يَهربَ محمد شنر وجانكير حازر وشمدين صاكك. وهُدِرَ عددٌ جمٌّ من الأنصارِ بسببِ الفراغِ الذي في الهيئةِ القيادية. ورغمَ كلِّ ذلك، كانت الحركةُ لا تفتأُ تتمتعُ بإمكانياتٍ شاسعةٍ جداً. إلا إنّ التقصيرَ ظلَّ سائداً لعدمِ انتهازِ تلك الإمكانياتِ بتسخيرِها في تعظيمِ النضالِ وإبرازِ كفاءاتِ الأنصارِ ومهاراتِهم. هذا ولَم يَجْرِ تَبَنّي الشعبِ المُهَجَّر. بينما إرهابُ حُماةِ القرى والمرتزقةِ وحزبِ الله كان يكتمُ أنفاسَ الشعبِ في الأريافِ والمدنِ على السواء. ما كان قائماً آنذاك، هو مجازرٌ قُتِلَ فيها الآلافُ علانيةً بجرائم قُيِّدَت ضد مجهول. ولَم يُؤْبَهْ بأيةِ قاعدةٍ أخلاقية. فاتُّبِعَت أساليبٌ لَم تُمارَسْ بحقِّ أيِّ شعبٍ آخر. وفُرِضَت عليه مراحلٌ أكثر إيلاماً مما هي عليه الإباداتُ الجسدية. وتُرِكَ الملايينُ من الناسِ يتخبطون في المجاعةِ والبطالة. واستُولِيَ على قُراهم، واحتُجِزَت أملاكُهم. كما ودارت المساعي لتتريكِ أطفالِهم في المعسكراتِ المسماةِ بالمدارسِ الابتدائيةِ الداخليةِ التي عَجَّت بهم. وأُقحِمَ الدينُ في خدمةِ الفاشية. ورُبِطَ الاقتصادُ بالحربِ كلياً. وأيُّ اعتراضٍ أو انتقادٍ بسيطٍ تجاه ذلك، كان يُقابَلُ بحملةِ الإفلاس.
ومع ذلك، اتَّخَذنا العيشَ والتحملَ أساساً. وعليه، فالحربُ التي شنَّتها القوى التي في كردستان العراق ضدنا مقابلَ حظيِها بالكيانِ الفيدراليِّ على حسابِنا، لَم تَكفِ للقضاءِ على قواتِنا في المنطقة. بل بالعكس، فقد انتشرنا في عمومِ أرجاءِ جنوبِ كردستان. أما الجيشُ التركيّ، فقد أعاقَنا من إحرازِ النصرِ العسكريِّ الظافرِ على الصعيدِ الاستراتيجيّ. إلا إنّه بالمقابل تكَبَّدَ ضربةً استراتيجية، بتمهيدِه الطريقَ أمام ظهورِ كردستان الفيدرالية. هكذا، وإلى جانبِ إفلاتِه النصرَ العسكريَّ الاستراتيجيَّ من يدِه بعدَما كان واقفاً على عتبتِه، فقد كان PKK تمكَّنَ من الحفاظِ على نسبةٍ هامةٍ من قوتِه السياسيةِ والعسكرية. إذ كان قد اشتُهِرَ في الساحةِ الدولية، وتَموقَعَ في جُلِّ البلدانِ بشكلٍ وطيدٍ للغاية. كما وكان يتحلى بدورِ الحزبِ الطليعيِّ في كردستانِ إيران وكردستان العراق وكردستان سوريا. إضافةً إلى أنه كان قد حظيَ بدعمِ الغالبيةِ الساحقةِ للكردِ في أوروبا، وارتقى إلى منزلةِ فتحِ ممثليةٍ له في العديدِ من بلدانِ البلقانِ والقوقازِ وآسيا الوسطى.
في عامَي 1997 و1998، جُرِّبَ ثانيةً طريقُ الحوارِ غيرِ المباشرِ عن طريقِ الجيشِ ورئيسِ الوزراءِ نجم الدين أربكان. كان البحثُ عن الحوارِ ثمرةً لسيادةِ وضعٍ متأزمٍ لا يُطاقُ الاستمرارُ به. وبينما كنا ننتظرُ نتيجةَ الحوار، كانت التهديداتُ التي لَوَّحَ بها قائدُ القواتِ البحريةِ أتيللا أتيش ضد سوريا، أثناءَ حديثِه الذي أدلى به على الحدودِ السوريةِ في 18 أيلول، كانت من النوعِ الذي يُذَكِّرُنا بانطواءِ صفحةِ مرحلةٍ أخرى. فذاك الحديثُ كان يعكسُ أصداءَ حملةِ فريقِ الحربِ النافذِ والقويِّ بين صفوفِ الجيشِ من جانب، ويسردُ مدى استحالةِ الاستمرارِ بالحوارِ من الجانبِ الثاني. زِدْ على ذلك أنّ القوى الانقلابيةِ والتآمريةِ المرتبطةِ بالخارج، كانت قد نَحَّت نجمَ الدين أربكان وخلعَته من عرشِ السلطةِ من جهة، وعمِلَت من الجهةِ الثانيةِ على ترهيبِ وترعيبِ رئيسِ هيئةِ الأركانِ العامةِ الجديدِ حسين كفرك أوغلو بمحاولةِ اغتيالِه، وذلك تَحَسُّباً لأيِّ سلوكٍ مُسالِمٍ قد يسلكُه (كان ثمة تقييماتٌ بهذا الشكلِ حينذاك). وهكذا، مرةً أخرى هُدِرَت فرصةُ البحثِ عن حلٍّ سلميٍّ وسياسيٍّ يتميزُ بأهميةٍ تعادلُ ما كانت عليه في عهدِ تورغوت أوزال بأقلِّ تقدير. وبِتنا على مشارفِ مرحلةٍ جديدة، بعدَما طوَينا صفحةَ الدوامةِ المفرطةِ الدائرةِ في محيطِ سوريا والشرقِ الأوسط. لقد كانت الدوامةُ أَنهكَتني أنا أيضاً. لذا، كان قد حان الوقتُ تماماً لإنجازِ التغيير. وكأنني كنتُ أنتظرُ كسرَ طوقِ هذه الدوامة. فمثلما أنّ سدَّ الطريقِ أمام إحرازِ PKK للنصرِ العسكريّ، لَم يَكُنْ دليلاً على نهايةِ تطورِه ونجاحِه؛ فإنه لَم يستطعْ من ناحيةٍ أخرى صَدَّهُ عن اكتسابِ الخبرةِ اللازمةِ والتحلي بالقوةِ الكامنةِ التي تُخَوِّلُه للمبادرةِ في شنِّ حملاتٍ أعظمَ وأوسع في كلِّ لحظة. ولو أنه جرى التخلصُ من نقاطِ ضعفِ القيادةِ الميدانيةِ وتلافيها، لَكان لن يَسَعَ PKK إلا أنْ يبدأَ بحملاتٍ وأطوارٍ حربيةٍ جديدةٍ تُخَلِّفُ وراءها قوةَ الحملاتِ القديمةِ بفراسخ شاسعة، وألا ينتقلَ بالعملياتِ الأنصاريةِ التي لا تزالُ مستمرة إلى مستوى نوعيٍّ أرفع.
وحسب قناعتي، فتجربتي التي خضتُها في الشرقِ الأوسطِ طيلةَ عشرين عاماً، كانت أَشبَهُ بالأرجحِ بتجربةِ موسى التي خاضَها في صحراءِ سيناء طيلةَ أربعين عاماً. كان موسى قد بذلَ جهوداً دؤوبةً وعظيمةً في سبيلِ تحويلِ أنسابِ القبائلِ العِبريةِ التي لا تأبَهُ بأيةِ ضوابط أو قواعد إلى قبائل مقاتلة. إلا إنّ أنسابَ القبائلِ تلك كانت قد أدارَت ظهرَها بسهولةٍ عن رُسُلِ الإلهِ يَهوَه Yehova، لتواظبَ على عبادةِ أوثانِها القديمة؛ وكانت لا تتخلى بسهولةٍ عن تصرفاتِها الشاذة. كما كانت لا تعترفُ بالوصايا العشرِ التي أنزَلَها الربّ، وتنغمسُ في أهوائِها بكلِّ يُسر. لقد كانت عاجزةً عن السيرِ صوب "وطنِ الجنة" الذي وعدَها به الرب. وهكذا؛ فإنّ قصتَه تشيرُ إلى كونِ بحثِ المجموعاتِ النازحةِ عن موطنٍ لها عادةً تنحدرُ من الماضي الغابر. وفي حالِ عدمِ تحصينِ تلك المجموعاتِ بالأيديولوجيا والخصائصِ القتالية، فما من حيلةٍ أمام تشتُّتِها وانصهارِها. هذا وكانت لنا حياتُنا الشبيهةِ بأحدِ جوانبِها بقصةِ حواريي عيسى أيضاً. فبينما كان حواريو عيسى منعكفين على الخلاصِ من جورِ نمرود، عَلِقوا بظُلمِ فرعون، فصُلِبوا تحت ظلِّ شبكاتِ الغلاديو التي في روما. ونحن أيضاً كنا وجهاً لوجهٍ أمام مخاطرِ الصلبِ في كلِّ لحظة. كما وكنا بدأنا نشبهُ مجاهدي محمد أيضاً إلى حدٍّ ما. إذ كنا مُحَصَّنين أيديولوجياً وسياسياً وعسكرياً. وكنا لا نتوانى عن شنِّ الهجومِ وسلوكِ الدفاعِ الذاتيِّ في سبيلِ العيش. هذا ولَم نَكُن مجردَ سائرين نحو "الأرض الموعودة"، بل وكنا لا نقبلُ البتةَ بالانقطاعِ كلياً من تلك الأرض. لذا، لَم يَغِبْ حضورُنا إطلاقاً من على ذُرى وحوافِّ جبالِها الشماء. ورغمَ كلِّ التجزؤِ السائد، لَم نتخلَّفْ عن تأمينِ إمكانيةِ الوحدة.
كانت غايتي في الفترةِ ما بين 1970 1980 هي خلقُ التنظيمِ والحزبِ الطليعيّ. وكنتُ نجحتُ في ذلك. وكان هدفي بعد 1980، هو خلقُ تنظيمٍ مناضليٍّ مقاتل، وشعبٍ محارب، أياً كانت المدةُ التي تقتضي ذلك. وفي الحقيقة، فقد كان تمَّ بلوغُ هذا الهدفِ في الشرقِ الأوسطِ منذ زمنٍ بعيد. أما الأحداثُ الجاريةُ بعد 1990 أو بعد 1995 كآخِرِ حد، فكانت تعبيراً عن تكرارٍ للذاتِ بلا جدوى. وكان التعاطي المنفعيُّ هو الذي جرَّني إلى هذا الإفراطِ في التكرار. كانت تلك الساحةُ بالغةَ الأهميةِ على صعيدِ نضالِ الكردِ في سبيلِ نيلِ الهويةِ والحرية. وكنتُ أرومُ إلى الاستفادةِ منها حتى النهاية. كنتُ مستعداً للرحيلِ عنها منذ أمَدٍ طويل. أما مَن كان غيرَ مستعدٍّ لذلك، فهم الرفاقُ والأصدقاءُ الذين في الساحاتِ الأخرى، وكلُّ أبناءِ الشعب.
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 37
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 38
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 39
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 40
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 41
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 42
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 37
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 38
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 39
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 40
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 41
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 42
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 37
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 38
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 39
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 40
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 41
Warning: Trying to access array offset on value of type bool in /home/komunar/public_html/ar/includes/reklamlar.php on line 42